بالروح بالدم نفديك يا كاظم
الشيخ رائد صلاح
كأني بأولئك الحشود الذين شدوا الرّحال من الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية إلى الأردن، والذين بلغ عددهم ثمانية آلاف وفق تقدير مدير شركة سياحية في أم الفحم .
كأني بهم كانوا يهتفون من قحف قلوبهم: (بالروح بالدم نفديك يا كاظم) نعم كأني بهم كانوا يهتفون صابرين على درجة حرارة كادت أن تصل إلى الخمسين قبيل أن تطأ أقدامهم تراب الأردن، وكأن بعضهم يوحي إلى بعضهم الآخر أن يتجلدوا بالثبات في وجه موجة هذا الجو الحار من أجل عيون كاظم.
بل رغم أن هذا الحر اللاهب الشديد قد جفّف آخر قطرة ماء من أجسادهم وكأنها تخشّبت وقست كالحجارة أو أشد قسوة، إلا أنهم واصلوا الهتاف مدويًا يملأ غور الأردن ويتردد صداه ما بين القدس المباركة وعمان، وبين غزة التي تحتضر والضفة الغربية التي تحترق، وما بين جرش والجليل، وما بين العقبة والنقب، وما بين إربد والمثلث.
واصلوا هذا الهتاف المزلزل: بالروح بالدم نفديك يا كاظم، واصلوا هذا الهتاف العروبي لعله يملأ أذني كاظم فورًا رغم بعد المسافات بينهم وبينه، حتى يعلم أن من حوله رجالًا ونساء لا يفدونه بأموالهم فقط، بل يفدونه بأنفسهم وأنفاسهم، فهو كاظم المغوار الذي يستحق منهم أن ينحنوا له من بعيد قبل أن يكحلوا عيونهم برؤيته، مرددين: فداك آباؤنا وأمهاتنا يا كاظم.
وهو كاظم رجل المرحلة، الذي باتوا يشمّون ريحه وهم لا يزالون يتحاشرون كالأكلة الجياع حول قصعة الطعام الواحدة قبل اجتيازهم المعبر الأردني.
وهو كاظم الذي جاؤوه بقلوبهم المنكسرة طامعين منه أن يجبرها بصوته الرخيم الملائكي، فهم القوم الذين يشار إليهم ببنان النخوة الفلسطينية، الذين ما عادوا قادرين على تذوق الطعام وشرب الماء حسرة على رضع غزة وأطفالها الذين باتوا يذبلون حتى الموت من شدة الجوع.
ولأن هؤلاء القوم لم يرضوا لأنفسهم موقف المتفرج الصامت على كرب نساء غزة وعجائزها وشيوخها ومشرديها ومشرداتها، فقد لجأوا مضطرين إلى المهرجان الغنائي الذي يستضيف كاظم في الأردن.
فالرجاء ألا يزاود عليهم أحد، فهو حسّهم الإنساني، وهي وطنيتهم الفلسطينية، وهي عاطفتهم اليعربية، قد دفعتهم للهرولة بآلافهم المؤلفة إلى كاظم كي يشكوا له حال غزة التي تقتلها القنابل، ويقتلها الجوع، ويقتلها المرض، ويقتلها صمت الحكام والشعوب العربية والمسلمة، ويقتلها كيد الصليبية العالمية ما بين أمريكا وأوروبا، ويقتلها كيد المشروع الصهيوني بيمينه ويساره ومتدينه وعلمانيه منذ قرابة القرن من الزمان.
لعل كاظم أن يفك الحصار عن غزة وهو يتمايل أمامهم على منصة مكائه وتصديته، وقد توشح بالكوفية الفلسطينية وهزل جسده حتى برزت عظامه تضامنًا مع مسغبة غزة، ولعل كاظم أن تهطل دموعه كالمطر الغزير أمامهم كمدًا وحسرة ولوعة على دموع ثكالى غزة وأراملها ونائحاتها، ولعل كاظم يصيح فيهم بموال “من قاع الدست” مجبول بجرح العراق ومأساة سوريا ونكبة مصر ولوعة ليبيا وآلام تونس وزفرة اليمن ومأتم غزة وأحزان القدس وحسرات الضفة الغربية وهوان المسجد الأقصى، ولعل هذا الموال المكلوم يرد لهم كرامتهم ويحيي فيهم موات معنوياتهم وينبه ضمائرهم ويأمر حندس ليلهم بالرحيل، فهو كاظم عنوان المرحلة.
وهل هناك عاقل أو عاقلة ينكر ذلك؟! فهو كاظم جبار إبراهيم السامرائي من مواليد الموصل في العراق، وهو الملحن والمغني الذي يأبى أن يصدح في مهرجانات غنائه إلا بالعربية الفصحى إلا لضرورة، وهو الذي لم يدخن طوال حياته ولم يشرب الكحول منذ أن ولد عام 1957 حتى الآن، وهو صاحب الجنسية العالمية حيث يحمل الجنسية العراقية والقطرية والكندية والمغربية، وهو صاحب القصر المنيف الذي تحيطه الحدائق الغناء وحوض السباحة الفاره في المغرب، وهو الذي تقلبت على حياته تسع نساء ما بين مذيعة وفنانة وراقصة وملكة جمال، ما بين زوجة وصديقة، وبين عراقية ولبنانية ومصرية ومغربية وتونسية.
وهو البطل الذي قام بدور البطولة في مسلسل المسافر، وهو الذي فتحت له أبواب المشرق والمغرب لدرجة أنه هو الوحيد الذي أقام حفلًا غنائيًا في القاعة الملكية في بريطانيا، وهو الذي تكرم عليه الشاعر نزار قباني ومنحه لقب قيصر الأغنية العربية، وهو الذي منحه المجتمع النسائي لقب مطرب المرأة، وهو الذي منحته العراق لقب سفير الأغنية العراقية، وهو الذي لا ينطق بكلمة إلا بمقابل، لدرجة أنه حصل على مبلغ 150 ألف دولار أمريكي مقابل لقاء إعلامي أجرته معه إحدى القنوات المصرية.
وهو الذي يتنقل في الأرض كالغيث الذي استدبرته الريح ما بين قطر والبحرين وتركيا ولبنان وأمريكا وكندا وبريطانيا ومصر والمغرب وتونس والسعودية وعمان والأردن، ولولا الحصار الخانق لألقى عصا ترحاله في غزة والضفة الغربية والقدس المباركة.
فهل من منافس لهذه الشخصية الفذة في هذا الزمن الصعب؟ وهل من مبارز لها؟ وهل من جريء ينازلها في ساح المعازف والقيان؟ وهل من مغامر غرّته نفسه يتقدم عليها؟ وهل من مخدوع فاقد الأهلية يحاول التقدم عليها؟ إنه كاظم، وما أدراك ما كاظم؟
لكل ذلك فقد زحف هؤلاء القوم برجالهم ونسائهم وشيبهم وشبابهم من كل الداخل الفلسطيني إلى المعبر الأردني قبيل بضعة أيام يحملون الوفاء لمدرسة كاظم الخارقة التي قدمت لهم قائمة طويلة من الأغاني والتي بات يتصدرها أغنية (الحب المستحيل) وأغنية (صباحك سكر) وأغنية (أحبيني) وأغنية (دلع النساء)، وكأن أسماء هذه الأغاني تقول لنا إن كاظم دخل إلى خدور النساء ولم يخرج منها.
ويوم أن جمع هذا الزحف الفلسطيني الهادر قاعات الانتظار ما قبل الدخول إلى الأردن، كانوا كقطعة بشر واحدة من شدة الزحام، وكان العرق يتصبب من رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم كأنه يوم الحشر والنشور، ومع ذلك صبروا على شدة لأواء هذا الانتظار الذي كان حالهم فيه كأنهم يقفون حُفاة الأقدام على جمر لاهب شوقًا للقاء كاظم، لدرجة أن بعضهم تعرض للإغماء من شدة الحر وطول الانتظار، ومع ذلك نهض من إغمائه ولسان حاله يقول: من أجل لقائك يا كاظم كل شيء يهون.
ولدرجة أن بعضهم نقل إلى المستشفى لتلقي العلاج، ومع ذلك غادر المستشفى وهو أصفر اللون حتى يجدّ السير ويبلغ منازل كاظم. وأرجو ألا يكون بعضهم قد تعاركوا بالألسن والأيدي بعد أن ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، وقد طال عليهم الاصطفاف ينتظرون دورهم لاجتياز عقبة التفتيش وعقبة ختم الجوازات وعقبة دفع ضريبة السفر قبيل الدخول إلى الأردن.
وأرجو ألا تعجبوا من رجائي، فقد تعارك هؤلاء القوم بالأيدي قبل أكثر من عام وفي قاعات الانتظار نفسها وهم في طريقهم إلى محبوب الجماهير جورج وسوف. وأصارحكم القول إنني قد تعمدت أن أشاهد بعض المقاطع المصورة لهؤلاء القوم قبيل النجاة من نار الانتظار والدخول إلى الدرب الموصل إلى كاظم، فوقفت على أحدهم في مقطع مصور يقول عن هؤلاء القوم الذين كأنهم سكارى وما هم بسكارى: الناس انجنّت، يمكن تحرق حالها. هذا بالضبط ما قاله كلمة كلمة بلا أدنى تصرف مني.
وهكذا ترك هؤلاء القوم بيوتهم وأولادهم وراء ظهورهم، وكأنهم يصرخون في وجد أعمى: ركضًا إلى كاظم، وهكذا تركوا غزة وراءهم تتلوى جوعًا وتترنح عطشًا وتشكو وجع أمراضها وتبكي شهداء رضّعها وأطفالها، وتواصل حفر القبور لآلاف من ضحاياها، وتصلي صلاة الجنازة بلا توقف على تواصل موتاها، وتتابع خياطة الأكفان لقافلة قتلاها، وهكذا تركوا الضفة الغربية وراء ظهورهم تئن ألمًا وقهرًا وجزعًا، وقد تواصل أذى المستوطنين عليها بلا توقف، وتركوا القدس المباركة وحيدة، وتركوا المسجد الأقصى المبارك وحيدًا وراء ظهورهم، وهكذا تركوا جذورهم وانتماءهم وقيمهم وثوابتهم وهويتهم وراء ظهورهم، كأنهم العراة من كل ذلك، وذهبوا إلى كاظم معدمين من كل شيء إلا من طقطقة رزم الدولارات التي دسّوها في جيوبهم.
وبعد أن واصلت تفحّص تلك المقاطع المصورة عن أولئك القوم، لاحت مني التفاتة حزن وأسى على مشهد لباس النساء السافر ومشهد لباس الرجال الفاخر، وقد وضع بعضهم قبعة الكابوي الأمريكي على رأسه، ولا أدري لماذا، هل يريد أن يهرب من ذاته أم هو تعبير عن أسفه لأنه ولد في أزقة حارات الداخل الفلسطيني؟ ومع حزني وأساي على هؤلاء القوم، فقد أشفقت عليهم، فهم الذين بدا كل واحد منهم في مقطع مصور وهو يحمل قطعة ورق أو شمع أو خشب يحركها بيده بسرعة البرق قرب وجهه كي يطرد نار الحر التي لذعت وجهه ووجنتيه وأحالتها حمراء كقطعة البطيخ الأحمر الأصلي القادم من سهل البطوف.
ومع كل هذه الزلازل والبلابل التي غرق فيها هؤلاء القوم، فقد كان ينتظرهم دفع ثمن تذكرة الدخول إلى مهرجان كاظم الغنائي في الأردن، حيث يبدأ سعر التذكرة المتواضعة بقيمة 94 دولارًا أمريكيًا، وقد يصل سعر التذكرة الفاخرة لذوي المقامات الرفيعة إلى 799 دولارًا أمريكيًا.
ومع ذلك، كأني بهؤلاء القوم يقولون لبعضهم طاب الموت من أجل كاظم، ورغم أن عددهم قد وصل إلى 8000 وأكثر، فلم تتعرض لهم أية قوة إسرائيلية بالأذى، ولم تضيّق على حشدهم، ولم تدّعِ أنه حشد غير قانوني وغير مرخص، ولم تهدد بتفريق هؤلاء الآلاف.
ولكن وفي المقابل ها هي القوة الإسرائيلية تحاصر بعددها وعدتها وخيلها كل مظاهرة لنا وكل اعتصام من أجل المطالبة برفع هذا الكرب الشديد عن غزة، حتى لو كان عدد المشاركين في أية مظاهرة أو في أي اعتصام دون الخمسين، ومع ذلك قد يتعرضون للضرب والاعتقال، وهذا ما وقع على آخر اعتصام في مدينة أم الفحم، والذي كان يوم الجمعة الموافق 15/8/2025، حيث قامت قوة إسرائيلية بضرب الأخ عبد الناصر خالد القائم بأعمال رئيس بلدية أم الفحم وبضرب الأخ فاروق عوني نائب رئيس بلدية أم الفحم، وقامت باعتقال مجموعة من المتظاهرين، فيا لهذه المفارقة التي يجب أن تستوقف كل حر وحرة منا، فهل من مدّكر؟



