أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (247) دولة نتنياهو الكبرى!

حامد اغبارية

دون التّقليل من شأن رأي المحللين والمراقبين، من عرب وفلسطينيين خاصّة، القائل إنّ نتنياهو يسعى إلى إطالة أمد حربه على غزة من أجل بقائه السياسيّ، ولذلك فإنه اتّبع كل وسيلة وبذل كل حيلة لإفشال الصفقات مع المقاومة الفلسطينية، فإن المسألة أكبر من ذلك وأشد خطرا.

يرى المراقبون وخبراء السياسة والمحللون، على اختلاف تخصصاتهم، أن غاية نتنياهو الكبرى وطموحه الأكبر هو البقاء في سدّة الحكم أطول فترة ممكنة، والنجاة بنفسه من المساءلة الشعبية (في صندوق الانتخابات) والمحاسبة القانونية أمام القضاء؛ سواء على مستوى ملفات الفساد التي يحاكم عليها، أو على مستوى مسؤوليته عن التقصير والفشل في منع ما حدث يوم السابع من تشرين الأول 2023.

وهذا فيه شيء من الصواب، خاصة في جزئه الأول، وهو الحرص على البقاء السياسي، غير أنّ الأمر لا يقف عند تحقيق هدف البقاء أو حتى النجاة من دفع الثمن على المستوى الشخصي.

وأظن أن هذا يقع في دائرة القصور في فهم عقلية الرجل وأهدافه الحقيقية، أو على الأقل حصر المسألة في إطارها الضيق الآنيّ المرتبط بالحرب الحالية على غزة. فالقضية أكبر من هذا. فنتنياهو، نعم، يسعى للبقاء في سدة الحكم، لكن من أجل شيء آخر. فهو يؤمن بأنه هو الوحيد القادر على تحقيقه.

يوم الثلاثاء (12/8/2025) كشف نتنياهو عن حقيقة المشهد والمسعى، في مقابلة مع قناة (i24) الإسرائيلية. وأظنه اختار هذه القناة (المخابراتيّة) عن سابق قصد، لعلمه أنها أكثر قناة إسرائيليّة يشاهدها العرب في المنطقة، وفي التالي فإن رسالته في المقابلة كانت موجهة تحديدا للعرب وللفلسطينيين.

قال نتنياهو في تلك المقابلة، إنه يشعر بأنه في “مهمة تاريخيّة روحانية”.

وما هي تلك المهمّة؟

إنها تحقيق رؤية إسرائيل الكبرى.

أعلم أن هناك من سيقول: نتنياهو كذاب، وقد اشتُهر عنه الكذب، وهذا يعلمه الإسرائيلي قبل غيره. وهذا صحيح، إلا في هذه. فقد صدق وهو كذوب. صدق في الحديث عن تلك “المهمة التاريخية والروحية”، لأنها ليست رؤيته الشخصيّة، ولو كانت كذلك لقلنا إنه يكذب حتى في هذه.

لكن هذه الرؤية تلخص فكرة المشروع الصهيوني التي نعلم جميعا أن نتنياهو ليس هو صاحبها، بل سبقته فيها قائمة طويلة من قادة المشروع الصهيوني، بدءا من هرتسل، مرورا بوايزمان وبن غوريون وجابوتنسكي وشاريت وجولدة مئير وبيغن ورابين وشارون وبيرس وديان وبارليف ويجئال يدين ودافيد إليعيزر ورفائيل إيتان وبراك، وصولا إلى نفطالي بنيت ومن حولهم حاخامات الاستيطان وغلاة المستوطنين. لذلك مخطئ من يظن أن هناك تيارا صهيونيا تخلّى عن هذا الحلم والسعي إلى تحقيقه.

وإذا كانت هناك أحزاب أو تيارات صهيونية تتجنب الحديث عن هذا الموضوع والخوض فيه مباشرة، فهذا ليس لأنها لا تؤمن به أو تسعى إلى تحقيقه، ولكن لأن نهجها السياسي يقتضي انتهاج أسلوب الضبابية تارة، وتحيّن الفرض تارة أخرى، وجسّ النبض في الشارع الإسلامي تارة ثالثة، مع أخذها في الاعتبار موقف جهات في المجتمع الدولي الذي يمكن أن يشكل عنصر ضغط. ولو راجعنا مواقف وسياسات وتصريحات قادة المشروع الصهيوني في مختلف محطات الصراع لاستطعنا أن نقرأ في ثناياها ما

قاله نتنياهو بوضوح وبشكل مباشر. بل إن منهم مَن قال ما قاله نتنياهو في مناسبات مختلفة، خاصة قيادات التيار اليميني الفاشي الاستيطاني.

في حزيران 1967 شنت تل أبيب حربا على الدول العربية، واحتلت خلال ستة أيام سيناء والجولان والضفة والقطاع وشرقي القدس. ورغم أنها زعمت في ذلك الوقت أنها خاضت حربا للدفاع عن نفسها أمام الجيوش العربية، إلا أن قادة سياسيين وعسكريين وإعلاميين ومفكرين أعلنوا بعد الانتصار أنهم استعادوا جزءا آخر من أرض الآباء والأجداد!

وإذا كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قد اضطرت في مرحلة معينة إلى الانسحاب من سيناء، فإن هذا لا يعني التنازل عن الحلم بقدر ما هو “تنازل” مؤقت فرضته ظروف سياسية خارجة عن إرادتها، إضافة إلى أن الثمن الذي “قبضته” من وراء صفقة كامب ديفيد كان ثمنا كبيرا بحجم خروج أكبر دولة عربية وصاحبة أكبر جيش في المنطقة من دائرة الصراع، حتى تحولت تلك الدولة إلى إحدى وسائل التمكين المستقبلي للمشروع الصهيوني، وهذا ما نراه اليوم بكلّ وضوح.

ومن الضروري ألا ينسى أحد حالة الهستيريا التي أصابت المؤسسة الإسرائيلية (في الشارع وفي المستوى الرسمي) أثناء أحداث الربيع العربي وصعود الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر بشكل خاص. فقد سرت يومها قشعريرة الرعب في الجسد الإسرائيلي خشية أن هذا مؤشر لتقويض أحلام المشروع الصهيوني. لذلك بذلوا كل جهد وبمساعدة واشنطن وعواصم أوروبية، وأنظمة عربية عميلة من أجل إجهاض ثورة الشعب المصري. وقد تحقق لهم -حاليا- ما أرادوا.

وإذا كانت حكومة شارون قد قررت إخلاء المستوطنات من غزة عام 2005 في أعقاب الانتفاضة الثانية التي سببت للمؤسسة الإسرائيلية أذًى كبيرا، فهذا لا يمكن اعتباره انسحابا وتنازلا بقدر ما هو تكتيك سياسي-عسكري جنّب تل أبيب خسائر بشرية ومادية واقتصادية كبيرة، في الوقت الذي يمكّنها من الإبقاء على غزة تحت عينها، ولذلك ضربت عليها ذلك الحصار المستمر منذ عشرين سنة، وصولا إلى الحرب الحالية.

ولننظر الآن إلى ما فعلته وتفعله حكومة نتنياهو. فالقضية ليست قضية غزة ولا هي قضية المقاومة الفلسطينية، بل إن ما يحدث هو عمليا جزء من مخطط المشروع الذي تحدث عنه نتنياهو.

من أجل ذلك ما يزال جيش الاحتلال يسيطر على أجزاء واسعة من جنوب لبنان، رغم التوقيع على اتفاقية تقضي بانسحابه قبل أشهر، ورغم قبول حزب الله بشروط لم يكن يقبل بها قبل سنوات قليلة، أقلها الانسحاب إلى شمال الليطاني وأقصاها إمكانية نزع سلاحه بشروط معينة.

ومن أجل ذلك يسيطر جيش الاحتلال على أجزاء واسعة من جنوب سوريا، رغم أنه لم يكن هناك أي مبرر ميداني يدفع إلى ذلك. بل هي كانت فرصة سانحة لنتنياهو كي يمد يده إلى الأرض السورية بعد أن دمر من الجو جميع مواقع الدفاعات الجوية السورية بحجة أنها من بقايا النظام البائد. ويبدو بوضوح أن نتنياهو لن يخرج لا من لبنان ولا من سوريا بإرادته، حتى لو وقّع على مليون اتفاقية.

ومن أجل ذلك سن الكنيست الصهيوني مؤخرا قانونا يقضي بضم الضفة الغربية بشكل رسمي، رغم وجود اتفاقيات وقّعت عليها دول كبرى تسمى اتفاقيات أوسلو وتوابعها. ولا أظن أن نتنياهو سيتخلى عن ضم الضفة بإرادته. فهو مقتنع بأن بسط الهيمنة هو حق تاريخي وروحي وديني ليس من حق أحد أن ينازعه فيه أو يشكك فيه.

من هنا فإن الحرب المجنونة على غزة ومواصلة وضع الخطط العسكرية للهيمنة عليها بشكل كامل ليس من أجل إرضاء الأطراف اليمينية في حكومته؛ أمثال سموطرتش وبن غفير كما يتخيل بعض المراقبين والمحللين، وإنما هي جزء من الحلم الصهيوني. وما أولئك من متطرفي المستوطنين إلا شمّاعة يستخدمها نتنياهو وقت الحاجة أمام المجتمع الدولي وأمام الرأي العام.

ويجب ألا ينسى أحد أن نتنياهو نشأ في أسرة تؤمن بأرض إسرائيل الكبرى، ولا يمكن تجاهل هذه المسألة لأنها هي عمليا البوصلة التي توجهه، لكنه طوال السنوات الماضية في حكوماته المختلفة تعامل مع المسألة بذكاء ودهاء، فصافح ياسر عرفات أمام الكاميرات وعقد معه اتفاقيات، والتقى محمود عباس وعقد معه تفاهمات، لكنه عمليا لم يقدم شيئا، بل عمل طوال الوقت على إفشال أية خطوة تقود إلى قيام دولة فلسطينية مقطعة الأوصال على 20% من مساحة فلسطين التاريخية. وقد أكد في السنتين الأخيرتين في أكثر من مناسبة أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية.

كذلك يجب ألا ننسى أن نتنياهو هو صاحب كتاب “مكان تحت الشمس” الذي يتحدث فيه عن أهداف المشروع الصهيوني التي لقنّها له والده بنتسيون (ميليكوفسكي) نتنياهو. وقد ذكر نتنياهو في مقابلة له عام 2010 أن والده كان أكبر المؤثرين عليه في قضية أرض إسرائيل الكاملة.

إذن، هذا هو “الشرق الأوسط الجديد” الذي يتحدث عنه نتنياهو.

والسؤل الآن ليس إذا ما كان قادة المشروع الصهيوني يسعون فعلا إلى تحقيق حلم إسرائيل الكبرى التي تضم أرض الشام (فلسطين وسوريا ولبنان والأردن) وأجزاء من مصر والجزيرة العربية، وإنما السؤال: هل سيكون في إمكانهم تحقيق ذلك؟

الأحداث الجارية حاليا، وفيما يظهر للعيان، تشير إلى أن القوم يتقدمون نحو تحقيق تلك الأهداف، بدءا من غزة، التي تشكل العقبة الكؤود أمام المشروع، ولكن لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالقادم، ولا كيف سيكون شكل المنطقة بعد سنة أو سنتين، ولا أحد يمكنه أن يتخيل إمكانية ظهور قوة أو قوى جديدة في المنطقة تقف لذلك المشروع بالمرصاد.

على أية حال فإن لنتنياهو ومَن سبقوه مشروع يسعوْن إلى تحقيقه منذ قرابة ثمانية عقود، فهل لدى العرب والمسلمين مشروع؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى