عندما يعق اللغةَ أبناؤها
ليلى غليون
يا أم اللغات عداك منا عقوق مساءة وعقوق جهل (الشاعر خليل مطران).
عقوق الوالدين، كبيرة من الكبائر إن لم يكن من أعظمها، وهو جرم عظيم بحق الوالدين، وعاق والديه خاسر في الدنيا قبل الآخرة، ويا لها من خسارة، ولعظيم هذا الجرم، ولعظيم أهمية بر الوالدين، فقد جمع الله سبحانه في آية واحدة وجوب إفراده جل جلاله بالعبادة ثم بعدها مباشرة وجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما بجميع وجوه الإحسان قولًا وفعلًا: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا) 23سورة الإسراء.
فقمة الهرم الإيماني توحيد الله سبحانه ثم بعد ذلك القيام بحق الوالدين لعظيم شأنهما.
ولكني عن بر الوالدين أو عقوق الوالدين، لن أتحدث في هذه المقالة رغم أهمية الموضوع وما يفرز واقعنا من مآسٍ اجتماعية ضحاياها آباء وأمهات ألهبت ظهورهم سياط العقوق والظلم من قبل الأبناء، ولكني سأتحدث عن عقوق من نوع آخر لا يقل جرمًا عن عقوق الوالدين.
إنه العقوق المرعب للغة الضاد من قبل قطاع لا بأس به من أبنائها ممن استهانوا بها وبخسوها حقها، لا بل هناك من يفاخر بتحدثه بلغات غيره على حسابها ويحسب ذلك تقدمًا وتحضرًا وقد نسي أو جهل وربما تجاهل، أن لغة المرء هي هويته، هي وطنه، هي شخصيته التي يتميز بها، ومن هانت عليه لغته فقد هان، ومن فقد لغته فقد هويته وخسر كل شيء ولو ملك كنوز الأرض، وربما لا يعلم أنه ليست هناك لغة متقدمة ولغة متخلفة بل هناك أمم متقدمة وأمم متخلفة، والتمسك والاعتزاز بلغة الأم إنما هو تأكيد واعتزاز بالهوية حتى لو أنه يتحدث بلغات الأرض جميعها.
وما أجمل ما قاله الشاعر يوسف فضل الله سلامة:
ليس التفرنج للأوطان مفخرة إن هانت الضاد هانت بها العرب
وإن أعظم عار أن نرى لغة ال أعراب يجتاحها الإهمال والنوب
صون اللغات صيان العرض نحسبه ألا اربأوا إن عرض الضاد يُستلب
فهي البتول التي فضت بكارتها أعاجم اللفظ بئس الإثم يرتكب
وأنت تتابع شبكات التواصل الاجتماعي على كثرتها وتنوعها، والتي تعج بالمحتويات على أنواعها، المفيدة وذات القيمة منها أو المسمومة والتافهة، وأنت تبحر وتتصفح هذه المواقع، تكاد الحسرة تأكل أحشاءك، ليس فقط على تفاهة الكثير من المحتويات ورداءة وتدني مستوياتها والتي يحصد أصحابها ملايين المشاهدات واللايكات من أجل الربح المادي ولو على حساب قيم ومبادئ وأخلاقيات لم يبق لنا إلا التمسك بها والعض عليها بالنواجذ، وليس فقط على محتويات منقولة نسخ لصق وقد نسبوها إلى أنفسهم ويعلم الله لمن تكون هذه المحتويات والتي تعب أصحابها في إعدادها وتحضيرها لتتبخر فجأة وتصبح ملكًا للآخرين، ولكنها الصدمة بصخرة الدهشة والذهول بل الحسرة على لغة الضاد التي وصلت في العديد من هذه المواقع إلى مستويات مرعبة ليصيح الغيور على لغته ملء فاه قائلًا: هل هذه لغتنا العربية أم يا ترى لغة تشبهها؟!
فاللغة العربية تعيش مأساة قاتلة في المواقع الالكترونية والتي لو كان بيننا سيبويه لضرب كفًا بكف على سوء الحال الذي أوصلنا نحن أبناء اللغة لغتنا إليه، حتى أنك تذهل من حجم الأخطاء في تشكيل الجمل البسيطة، ناهيك عن اللغة العامية التي أصبحت سائدة، كوارث إملائية ومطبعية، كوارث في النحو والصرف، الفاعل منصوب والمفعول مجرور والمجرور مرفوع، وعن الهمزة المظلومة فحدث ولا حرج، فلا تجد من يجلسها مكانها الصحيح إلا من رحم ربي، وإن سألت عن كان وأخواتها وإن وأخواتها المسكينات، تجد العجب العجاب والخلط بينهن والجهل بوظائفهن، بل تجد من لا يفرق بين التاء المربوطة والتاء المبسوطة ولا بين الألف الممدودة والألف المقصورة وهناك وهناك وما أكثر ما هناك ولو أردنا المزيد لأثقلنا من هذا الحمل سبعين بعيرًا.
ولله در الشاعر جبران بن محمد الذي كتب قصيدته وعنونها: اللغة الباكية:
وأهل الدار باتوا من خصومي فزادوا في بلائي واستيائي
حروف الجر عندي لا أراها كما كانت تجر إلى الوراء
أرى ما بعد النصب يُبنى ويُرفع تارة بلا حياء
فيا أهل العروبة ليس عندي سوى الشكوى إليكم والبكاء
قد يقول قائل مبررًا أخطاءه أنه ليس من أهل اللغة، وأنه ليس كل واحد يتقن قواعد اللغة ولديه معلومات عن هذا الفن إلا ما اكتسبه فترة المدرسة، وقد مرَّت عليه سنوات وأصبح نسيًا منسيًا، فإذا كان الأمر كذلك فما الذي يمنع الواحد منا أن يتعلم لغته التي هي جزء منه وهو جزء منها، وسبل تعليم اللغة كثيرة وميسرة لو أراد ذلك، وليس المطلوب منه أن يتعلم كل فنون اللغة وقواعدها وصرفها ونحوها، بل على الأقل أن يتعلم أبجديات اللغة مثل: الفاعل والمفعول والمجرور والمبتدأ والخبر وغيرها من أساسيات قواعد اللغة، وما الذي يمنعه أن يراجع منشوراته قبل نشرها؟ فإن لم يكن لديه القدرة فليعرض منشوراته على أحدهم ممن رزقه الله فهم اللغة أن يراجعها له ولو كلفه بعض المال.
وقد كتب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: “أما بعد، فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي”.
وقال أيضًا رضي الله عنه: “تعلموا العربية فإنها من دينكم وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم”.
أما ابن تيمية رحمه الله فقد قال: “اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب، وإن فهم القرآن والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
وإن أشد ما يؤلم ويحز في النفس، أن يتحدث أحدهم وهو من أهل اللغة العربية، بمصطلح ما أو كلمة ما عبرية أو انجليزية، أو مخترَع جديد، ثم يقول لا أعرف له معنى أو كلمة في العربية وقد جهل أن لغته أغنى اللغات بالمعاني والكلمات، وقد وصف حافظ إبراهيم اللغة العربية وغزارتها بالقول:
وسعتُ كتاب الله لفظًا وغاية وما ضقت عن آي به عظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
فلنتصالح مع لغتنا التي عققناها، ولنتعلمها على أسسها وأصولها ولو عند الكبر، ولنعلمها لأولادنا ونحببهم فيها ونقوي انتماءهم إليها ولا ندير لها الظهور كما هو كائن اليوم. فالأمم لا تنهض إلا بلغاتها، وإذا سادت اللغة سادت الأمة وإذا أهملت وتراجعت تراجعت الأمة، حتى أن الأوروبيين جعلوا من 26 سبتمبر يومًا قوميًا أوروبيًا خاصًا بحماية اللغات الأوروبية، ولله در من أرجع الهزيمة والهوان في ديارنا بأنها ظاهرة وهزيمة لغوية.
وأختم بقول الشاعر وديع عقل:
أيها العرب إذا ضاقت عليكم مدن الشرق لهول العاديات
فاحذروا أن تخسروا الضاد ولو دحرجوكم معها في الفلوات
إن يومًا تُجرح الضاد به هو والله لكم يوم الممات



