دين ودنيامقالاتومضات

عبير من نسائم الهجرة

ليلى غليون

ما أشبه اليوم بالبارحة، فالابتلاء واحد والمحنة واحدة، وهبل واحد، والمسلم هو الهدف، فهبل يعود وينتصب من جديد وتكون له الصولة والجولة مزهوًا بجنون الغلبة والتمكين، حاملًا عصا البطش والتنكيل لكل من يجرؤ ويرفع عينيه ليتلقى ضربة قوية على رأسه لا تقوم له بعدها قائمة.

إنه هبل الذي لا يفتأ يردد: (أنا ربكم الأعلى) ولا تفتأ جوقة العبيد والأتباع تردد وراءه: (سمعنا واطعنا) لترتفع أعناقهم علوًا واستكبارًا وقد نفشوا ريشهم غرورًا قائلين: (من أشد منا قوة).

فها هو المسلم اليوم ، كما المسلم بالأمس، عاش ويعيش غربة إسلامه، ودفع ولا يزال يدفع فاتورة انتمائه وتمسكه بهويته، يدفعها حصارًا وتضييقًا، يدفعها بطشًا وتنكيلًا، يدفعها هتكًا للأعراض واعتداء على الحرمات.

لقد عاش المسلم غريبًا وها هو اليوم يتسربل بعباءة الغربة التي تلفه من كل جانب، ها هو اليوم يعيش في ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل والبحر، وتحيطه نيران النمرود من كل صوب، بل نيران النماردة العتاة الطغاة الذين لا تنام لهم عين وهم يكيدون ويتآمرون ويتربصون ويحيكون المكر ألوانًا.

فلا عليك أيها المسلم وأنت الطريد وأنت الغريب أينما كنت وأينما حللت وفي أي بقعة كنت من بقاع أرض الله الواسعة. فاصبر كما صبر رسولك صلى الله عليه وسلم من قبل، وناج ربك كما ناجاه، وادعه كما دعاه وقل: اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس.

وكن على يقين بأن الله غالب على أمره، وليرقص قلبك طربًا وأملًا، فأنت على موعد مع الصبح القريب الذي فيه ستخلع عباءة غربتك.

لا عليك أيها المسلم ولو كنت في قلب المحنة ورحم المعاناة، فاجأر الى الله تعالى كما جأر يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت ورطب لسانك بلا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ولا يخالج قلبك أدنى ريب بأن الله بالغ أمره (يومئذ يفرح المؤمنون).

لا عليك أيها المسلم إن كنت في وسط النار أو في جوف الغار والمتألهون من حولك يكيدون لك كيدًا، فليطمئن قلبك ولتسكن جوارحك ولتقر عينك وقل بملء الفم ويقين المؤمن المتوكل: (إن الله معنا)، فأنت تسير بموكب الهجرة إلى الله الذي انطلق باسم الله وبعين الله، وأنت بقافلة الفرار إلى الله يحدو حاديها: (إني ذاهب إلى ربي)، (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)، (ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين) فعين الله لا تنام وهو الرحيم الودود ذو العرش المجيد، مجيب دعوة المضطرين ليبشر عباده المهاجرين إليه، الفارين إلى رحابه:(فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)، إنه وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، إنها البشرى بزوال هذا الليل وانبلاج عهد جديد، إنها البشرى لكل مؤمن أن اثبت واصمد، فليس بعد العسر إلا اليسر وإن الفرج لآت.

وإننا وفي هذه الأيام إذ تداعب اجفاننا نسائم ندية من نسمات ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، فإن أمتنا لا تزال تتعرض لأعتى أساليب القهر والإرهاب العالمي، ولا يزال الكثير من شبابها وشاباتها معرضين عن ذكر الله وتعاليم هذا الدين، فإننا نقول لهم: ها هو مركب الهجرة إلى الله يدعوهم قائلًا: (يا بني اركب معنا) فتعالوا للهجرة عن المعاصي وما يغضب الله وللسفر في رحلة الايمان التي سترسو بكم على شواطئ الأمان والنجاة. تعالوا نهجر السفور والتبرج والملابس التي ما أنزل الله بها من سلطان، تعالوا نهجر السلوكيات المنحرفة والافلام الهابطة وكل ما يقتل في النفس الحياء والمروءة.

تعالوا نهجر قطيعة الأرحام وعقوق الوالدين وإيذاء بعضنا بعضًا. تعالوا نهجر كل فكر غريب يستهدف سلخنا عن ديننا وأصالتنا. تعالوا نطمس ظلام المعاصي صغيرها وكبيرها بنور الإيمان والهدى ونعقد معاهدة صلح مع الله تعالى ونعلنها هجرة صادقة وتوبة نصوحًا نفر فيها إلى الله تعالى بالطاعات والقربات وما يرضيه تعالى، فالهجرة بهذه المعاني هجرة باقية مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى