ألهاكم التكاثر

الشيخ عبد الله عياش- عضو حركة الدعوة والإصلاح
من القواعد المقرّرة في علم التفسير والعربية أن: “البيان يحدّد، والإبهام يعدّد”، فإذا قلتَ: (ركب أحمد السيارة) أفادَ كلامُكَ أنه ركب السيارة تحديدًا دون غيرها، ولكنك إذا قلتَ: (ركب أحمد) ووقفتَ. بقيت الاحتمالات مفتوحة في ذهن السامع: أركب دراجة أم سيارة أم حافلة أم طائرة؟! “فالبيان يحدّد، والإبهام يعدّد”.
وفي قوله سبحانه: {ألهاكم التكاثر}، والمعنى: شغلكم مكاثرة بعضكم لبعض. نجد أن الآية لم تذكُر ما هو المُتكاثَرُ به، وهذا مقصود. لأن التكاثر بين الناس متعدد، فربما كان بالمال أو بالجاه أو بالولد، وربما كان بالطعام أو باللباس أو بالسيارات أو بالرحلات. وهي مع تعددها تشترك في أمر واحد، وهو أنها جميعًا من الوسائل وليست من الغايات، كلها مقصودة لغيرها لا لنفسها. وهذا المعنى يحكي واقعنا اليوم، وإليك بعض الأمثلة:
المثال الأول (المال): وهو في الأصل وسيلة في حياة الإنسان، يستخدمه لتوفير حاجاته، ولكن بعض الناس باتوا يتعاملون معه على أنه هدف، فهم يجمعون المال محبة في المال، لا ليتوصلوا به إلى هدف أو غرض، فربما كان الفرد محتاجًا إلى شيء ما، ومعه المال، ولكنه لا ينفقه، وقد قيل: “المال خادم جيد، ولكنه سيد فاسد”.
المثال الثاني (الساعة): وهي وسيلة لمعرفة الوقت. ولكن بعض الناس يبالغون في الاهتمام بهذه الوسيلة، فتجدهم يمتلكون 5 – 6 ساعات، ويتعمدون شراء الساعات باهظة الثمن، تلك الموسومة بعلامات تجارية فخمة وضخمة! فتأمل كيف صارت الوسيلةُ هدفًا.
المثال الثالث (السيارة): وهي في الأصل (وسيلة نقل) تنقلنا إلى حيث نريد لقضاء حاجاتنا، إلى الدكان إلى العمل إلى الطبيب إلى زيارة الأقارب… ولكن من الناس من جعل سيارته هدف حياته الأكبر، فهو منشغل بها دائمًا، منصرفٌ همُّه إليها: كيف يزيّنها، وكيف يجمّلها، وماذا يضيف إليها، ومتى سيجددها!
المثال الرابع (الأفراح والأعراس): وهي وسيلة لإعلان النكاح، حتى يعلم الناس أن فلانة صارت زوجة لفلان، ولكن الناس في واقعنا بالغوا في الأفراح جدًا، فلم تعد مناسبة الفرح يومًّا بل صارت أيامًا، ولم يعد الفرح يقتصر على وليمة بل على ولائم. فهذه كلها مجرّد وسائل، وهي ميدان التكاثر اليوم بين المسلمين مع كل أسف.
ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد، فإن الناظر إلى مجتمعاتنا يجد أنهم قد انتقلوا من التكاثر بالوسائل، إلى التكاثر بوسائل الوسائل! فإذا كان إشهار النكاح وسيلة، فإن تزيين سيارة للفرح من وسائل الوسائل، واليوم يتم تزيين عدد من السيارات. قل مثل ذلك في حفلات التخرّج، وما فيها من سرف وبذخ، بل وتجاوزات شرعية لا تخفى.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فراشٌ للرجل، وفراشٌ لأهله، والثالث للضيف، والرابع للشيطان”، قال الإمام النووي رحمه الله: (معناه أن ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة، والالتهاء بزينة الدنيا.
وما كان بهذه الصفة فهو مذموم، وكل مذموم يُضاف إلى الشيطان). فبربك أخي القارئ، كم في حياتنا وممتلكاتنا ينبغي أن يُضاف إلى الشيطان؟!
على ضوء هذا المعنى نفهم النصوص الكثيرة الواردة في القرآن والسنة في ذم الدنيا، كقوله تعالى: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار}غافر 39، وقوله ﷺ: “ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”، وأُثر عن المسيح عليه السلام أنه قال: “عجبتُ لمن يبني على الجسر” -يقصد: الدنيا-
هذه النصوص الكريمة وغيرها كثير، تؤصل لفكرة مهمة، وهي ذم تلك المنهجية التي تبالغ في الاهتمام بالوسائل وتنسى الأهداف والمقاصد والغايات، وبالتالي ضياع العمر في غير طائل، قال سبحانه: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يكون حطامًا} الحديد،20.
قال الطاهر ابن عاشور: ((وقد ذكر هنا من شئون الحياة ما هو الغالب على الناس وما لا يخلو من مفارقة تضييع الغايات الشريفة أو اقتحام مساوٍ ذميمة ، وهي أصول أحوال المجتمع في الحياة، وهي أيضًا أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم، فإن (اللعب) طور سن الطفولة والصبا، و(اللهو) طور الشباب، و(الزينة) طور الفتوة، و(التفاخر) طور الكهولة، و(التكاثر) طور الشيخوخة). فاللهم ارزقنا بصيرة في الدنيا والدين، ووفقنا لما تحب وترضى.