أخبار وتقاريرمقالاتومضات

في بيتنا مدمن تكنولوجيا

ليلى غليون

إنَّ المتطلع على تربية الأبناء وأخلاقهم وسلوكياتهم قديمًا وحديثًا، أقصد قبل وبعد الثورة التكنولوجية العارمة اليوم، يجد البون الشاسع فيما كانوا عليه وما آلوا إليه. فالتربية في الماضي والتي غالبًا ما كانت تعتمد بالدرجة الأولى على الأهل رغم أن العديد منهم لم يحظوا بالتعليم في المدارس أو الجامعات إلا قليلًا، وغير مطلعين على أساليب التربية الصحيحة، إلا أنهم في الغالب كانوا يحرصون على إنشاء أبناء متعلمين مثقفين رغم أن معظمهم لم يكمل حتى تعليمه الإعدادي، كذلك لا يمكننا أن ننسى دور المدرسة الذي ساهم بشكل كبير في إنشاء مثل هذا الجيل رغم بساطة وتواضع الأدوات والامكانيات التعليمية في تلك الفترة، يوم كان للمعلم قيمته الحقيقية وهيبته ووقاره عند الطلاب وعند المجتمع برمّته قبل أن تضيع أو تكاد تضيع هذه الهيبة في معمعة الحاضر وصخبه ولامبالاته.

نعم لقد كان للأهل الدور المباشر في تربية أبنائهم (بالرغم من وجود الكثير من التحفظ على بعض الوسائل التربوية الخاطئة التي كانوا يستخدمونها) ساعدهم في ذلك عدم وجود الوسائل الترفيهية المنتشرة اليوم، بدون تكنولوجيا، ولا أجهزة ذكية ولا فيسبوك ولا واتس أب ولا أي من منصات التواصل الاجتماعي التي اجتاحت حضورهم وأصبحت عالمهم الذي يتنفسون من هوائه رغم افتراضية هذا العالم البعيد عن الواقع وأحيانًا الموضوعية والأخلاقية، إلا أن للأهل كان مساحة شاسعة في حياة وتربية الأبناء ما انعكس بصورة نوعًا ما إيجابية على أخلاقهم وشخصياتهم ومستقبلهم، رغم بعض الأساليب غير التربوية التي كانوا ينتهجونها كما ذكرت آنفًا كاستعمال العنف مثلًا الكلامي منه أو البدني، أو التدخل في حياة الابن بصورة سلبية تفقده استقلاليته في اختيار مهنته أو تخصصه وغيرها من الأمور البعيدة عن التربية السليمة.

وبعد ثورة التكنولوجيا، فقد الأهل جزءًا كبيرًا من حضورهم وسلطتهم ودورهم في حياة الأبناء، ولم يعودوا وحدهم يملكون زمام العملية التربوية حيث يشترك معهم العديد من وكلاء التربية، فإننا نجد الفرق الشاسع بين أبناء اليوم وأبناء ما قبل الثورة التكنولوجية، والتي أفرزت جيلًا مرفهًا يحصل على كل شيء ولا يعجبه أي شيء ويريد الاستقلالية في كل شيء ويكاد لا يتحمل مسؤولية شيء، جيل أصبح همه في الغالب كيف يقتني آخر صرخة من الهواتف الذكية وغيرها من مغريات ومقتنيات هذا العصر.

وفي هذا المقام لا يمكننا أن نغض الطرف عن الأهل وأنهم مسؤولون بالدرجة الأولى عن هذا الانحدار التربوي رغم الصعوبات التي يواجهونها في تربية أبنائهم بسبب الطوفان التكنولوجي الجارف كما أسلفنا أعانهم الله على ذلك، لأننا بتنا نرى في الغالب أن العديد من الآباء والأمهات منشغلين عن تربية أبنائهم، فالأب مشغول حتى الدقيقة التسعين في أعماله وكثرة هموم الحياة وضغوطاتها والقائمة الطويلة من متطلباتها التي لا تنتهي، كذلك الأم نجدها مطحونة طحنًا ما بين أعمالها المنزلية وعملها خارج البيت، وليس لديها الكثير من الوقت للجلوس مع أبنائها والاستماع إليهم ولمشاكلهم والدخول إلى عوالمهم ومعرفة ما يجري ويدور فيها. فماذا نتوقع من هذا الجيل الذي تحيطه المخاطر والأشواك التربوية من كل جانب؟ وبالتالي نصف هذا الجيل بأنه (جيل الشمينت) ونلوم هذا الجيل بأنه عنيد خامل لا يتحمل المسؤولية، أو نلوم هذا الزمان وإفرازاته في محاولة منا للهروب إلى حيل
نفسية نبرئ فيها أنفسنا من مسؤولية هذا الفشل الذريع والواقع الصعب الذي وصل إليه الأبناء.

ولأن الثورة التكنولوجية أصبحت واقعًا مفروضَا لا مهرب منه بحكم طبيعة العصر ومتغيراته، فيجب أن نعترف أننا لا نستطيع منع أبنائنا أو عزلهم عن استخدامها، وليس هذا هو المقصود في هذا المقال، لأننا أولًا نعيش في عصر التقنيات والكوكب كله مربوط ومعتمد عليها حتى أصبح بفضلها عزبة صغيرة لا تخفى منها خافية، وثانيًا المشكلة برأيي لا تكمن في هذه التقنيات ذاتها، لأن لها من الجوانب الايجابية الهائلة والتي لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا، ولكن المشكلة تكمن في الافراط وسوء استخدامها، والمطلوب من الأهل الأخذ بأيدي الأبناء لخلق الموازنة في الانغماس بهذه التقنيات وتوعيتهم وإرشادهم في كيفية تعاملهم معها من خلال النقاط التالية:

1- الاستعانة بالله سبحانه قبل كل شيء وتكثيف الدعاء أن يحفظ الله عز وجل الأبناء من كل شر وأن يعين الأهل ويمدهم بالصبر على تربيتهم خاصة في هذا الزمن الصعب.

2- على الأهل أن يكونوا واعين ومدركين أنهم ليسوا وحدهم في العملية التربوية فهناك من يتسلل ليشاركهم هذه المهمة، وهذا المتسلل في الغالب ليس مؤتمنًا على تربية الأبناء.

3- حضور الأهل الايجابي في حياة الأبناء وتخصيص أوقات للاجتماعات العائلية ومد جسور الحوار والصراحة والثقة المتبادلة بينهم وبين الأبناء، مما يجعل الأهل مطلعين على خبايا عوالم أبنائهم.

4- عند اجتماع العائلة على الأهل إغلاق هواتفهم بالكامل وكل ما يمكن أن يشغلهم عن أبنائهم في هذه الساعة تحديدًا، حتى يتفرغوا بصورة فعلية لأبنائهم لا يشغلهم عنهم شاغل.

5- إشباع الأبناء عاطفيًا وخلق أجواء حميمية في الأسرة والابتعاد عن المشاكل والمشاجرات الأسرية خصوصًا أمام الأبناء.

6- العمل على إشغال الأبناء بأنشطة رياضية أو دورات ثقافية أو رحلات ترفيهية.

7- توعية الأبناء بالمخاطر الصحية والاجتماعية جراء الاستعمال المتواصل للأجهزة التقنية مع سرد قصص حدثت للعبرة، وليس من المعقول تحذير الأبناء من مخاطر الاستعمال المتواصل لهذه الأجهزة بينما يرى الأبناء هذه
الأجهزة لا تفارق أيدي آبائهم وأمهاتهم.

8- العمل على تقنين استخدام هذه الأجهزة بحيث يحدد الأهل والمربون وقتًا محددًا للأبناء لاستخدامها أو اللعب من خلالها ويكون للأهل سلطة في ذلك ولا يضعفوا أمام رغبة أو إلحاح الأبناء.

9- توفير أمور جاذبة ومقنعة للأبناء بديلة عن التي يجدونها في العالم الافتراضي في هذه التقنيات والعمل على جعلها مكونات أساسية محببة في واقعهم.
حفظ الله أبناءنا وأعاننا على تربيتهم التربية المثلى في ظل هذا الجو الصاخب المليء بالفيروسات التربوية الفتاكة، وفي ظل سعي محموم لانحراف بوصلة هذا الجيل لابتعادهم عن الجادة ورميهم في هوة سحيقة ما لها من قرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى