أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (230) هذه المرة أنقذه ترامب من شرّ نفسه

حامد اغبارية

في فترة رئاسة دونالد ترامب السابقة تكرر الحديث، بزخم غير مسبوق، عن إمكانية توفير واشنطن لتل أبيب كل الإمكانيات والظروف للبدء بضمّ الضّفّة الغربيّة والسيطرة الكاملة عليها، وذلك بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للمؤسسة الإسرائيلية. وانتهت فترة رئاسة ترامب ولم يتحقق الأمر، غير أن نتنياهو لم ينس ذلك الموقف لترامب، وظل الحلم يراوده إلى اليوم.

إن هدف ضمّ الضفة الغربية المحتلة عام 1967 إلى السيادة اِلإسرائيلية ليست حلمًا خاصًّا بسموترتش وزبانيته وأمثالهم ممن يسمونهم اليمين الديني المتطرف، ولا هو خروج عن النّصّ في السياسة الإسرائيلية، بل هو جزء من حلم المشروع الصهيوني الذي يعتبر الضفة جزءا مما يسمونه “أرض إسرائيل الكبرى”، وقد تحدث نتنياهو عن هذه المسألة في كتابه “مكان تحت الشمس” قبل أن يُفطم سموترتش وبن غفير وأشباههما. فحركة الاستيطان المتواصلة منذ 1967 ولغاية اليوم كانت وما تزال تسعى إلى ذلك الهدف، بمدد من كبار الحاخامات التلموديين، وبدعم مالي حكومي رسمي ودعم أمريكي رسمي وغير رسمي، ودعم من ممولين من يهود أمريكا وأوروبا.

هذا الهدف كان ماثلا أمام نتنياهو بحكومته الحالية أثناء الحرب المجنونة على غزة، والتي توقفت حاليا، عقب الصفقة التي وقعتها حكومة نتنياهو مع حركة حماس وسائر الفصائل الفلسطينية في غزة؛ تلك الحرب التي كلفت نتنياهو، ومِن خلفه المجتمع الإسرائيلي برمّته، أثمانا باهظة تفوق الخيال، لم يكن هؤلاء يتوقعونها في أسوأ كوابيسهم.

وكانت هذه الأثمان والنتائج التي أسفرت عنها حرب تل أبيب على غزة سببا مباشرا (خفيًّا) دفعت ترامب إلى ممارسة أقصى درجات الضغط على نتنياهو لوقفها من خلال عقد الصفقة التي كانت جاهزة تقريبا منذ أيار الماضي ضمن خطة بايدن، والتي رفضتها تل أبيب مكابرة.

كان نتنياهو ينتظر فوز ترامب في انتخابات الرئاسة، لأن ما سيعطيه ترامب أكبر بكثير وأكثر بكثير مما قدمته إدارة بايدن أثناء الحرب من دعم عسكري غير مسبوق ودعم سياسي في كل المحافل الدولية ودعم اقتصادي وإعلامي. فقد كان نتنياهو يعلم يقينا أن إدارة بايدن لا يمكن أن تمنحه الفرصة وتوفر له الظروف للسيطرة على الضفة الغربية وضمّها، ولذلك وجد نفسه مضطرا لمواصلة الحرب كل تلك الشهور، رغم أن أهداف حربه المعلنة والخفية على غزة لم يتحقق منها شيء وتساقطت الواحد تلو الآخر. ذلك أنه لم يكن ليوافق على وقف الحرب ليظهر بمظهر الخاسر الذي يجرجر أذيال الخيبة من رمال غزة قبل أن يغوص فيها أكثر، فلا يمكنه الفكاك منها.

من أجل تحقيق أهدافه في الضفة الغربية، كان لا بد لنتنياهو من الحفاظ على حكومته ومنع سقوطها. ولم يكن له سوى ترامب ليسنده ويقدم له المدد. فكان أن وافق سموترتش على البقاء في الحكومة مقابل وعد بتحقيق بعض أحلامه في الضفة الغربية.

لقد حاول نتنياهو الظهور بمظهر المنتصر في حربه على غزة، ولم يتوقف عن الحديث منذ عقد الصفقة، عن مواصلة الحرب وتحقيق أهدافها بتحرير أسراه في غزة وإسقاط حكم حماس وتوزيع الوعود على شركائه في الائتلاف، رغم علمه أن هذه الأهداف، مثلما أنها لم تتحقق طوال 15 شهرا فإنها لن تتحقق غدا ولا بعد غد. فالعبرة بالنتائج وليس في التصريحات النارية، كما أنها لا تقاس بالدمار الهائل الذي سببته تلك الحرب في غزة، والذي تشير كل المعطيات أنه كان تدميرا منهجيًّا، كان فشل تحقيق أهداف الحرب أكبر أسبابه. والنتائج كلها تقول وتؤكد إن شيئا من تلك الأهداف لم يتحقق، وإن المخفي فيما يتعلق بالتفاصيل الميدانية أقرب إلى الكارثي في الجانب الإسرائيلي. وربما تكشف الأيام أمورا ستسبب للإسرائيلي صدمة بحجم صدمة السابع من تشرين الأول، وربما أكبر.

من أجل ذلك يمكن القول إن ترامب، في سعيه إلى تنفيذ الصفقة مع الفصائل الفلسطينية في غزة، قد أنقذ نتنياهو من شرّ نفسه، وأنقذ ماء وجهه، مقابل وعود أمريكية قد نجد آثارها فيما يحدث في الضفة الغربية في الأيام الأخيرة والتي يبدو أنها تأتي ضمن مشروع أكبر يحقق من خلاله نتنياهو هدفين: الهدف الأكبر، وهو ضم الضفة أو أجزاء منها، حتى ولو على مراحل وبوسائل مختلفة وبصور وأشكال مختلفة، والهدف الثاني إنقاذ ماء وجهه من خسارته المدوّية في غزة.

ولماذا هي خسارة مدويّة؟ قد يسأل سائل مشككا ومستغربا! وكيف يمكن أن تكون خسارة وقد حول جيش الاحتلال غزة إلى ركام؟

نعم، هي خسارة مدوية، لأن حرب تل أبيب على غزة حققت صفرا من النتائج، ولأن الحرب لم تكن بين دولتين أو قوتين متكافئتين، بل بين دولة تملك من عناصر القوة المادية كل شيء وبين تنظيمات لا تملك من تلك العناصر شيئا، ولأن تل أبيب بدلا من تحقيق الأهداف وجدت نفسها تنفذ شروطا كانت تقول عنها أثناء الحرب إنها أضغاث أحلام: قالت إنها ستبقى في محور فيلاديلفي، وستخرج منه. وقالت إنها ستبقى في محور نتساريم، وستخرج منه. وقالت إن سكان شمال غزة لن يعودوا إلى الشمال، وسيعودون، وقالت إنها لن تنسحب من بعض المواقع في غزة وستنسحب، وقالت إن إعادة الاستيطان في غزة وارد بكل قوة، فتبخر الحلم، وقالت إنها لن تطلق سراح أسرى فلسطينيين من ذوي الأحكام العالية، فرضخت.

والسؤال: لِمَ فعل ترامب ما فعله؟ لماذا أصر على عقد الصفقة مهددا بحرق الأخضر واليابس إذا لم تعقد الصفقة قبل أن يتسلم سدة الحكم؟

لقد قرأ ترامب المشهد في منطقتنا بشكل صحيح، وقرأ المتغيّرات المتسارعة بصورة واضحة، ذلك بعد أن قرأ جيدا المعطيات الميدانية في الحرب على غزة والتي أظهرت أن تل أبيب تحتاج إلى معجزة للخروج من ورطتها هناك، وقرأ جيدا اختلاف تلك الحرب عن كل الحروب التي خاضتها تل أبيب منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية.

من أجل ذلك تحرك ترامب بالشكل الذي تحرك فيه قبل أن تفلت الأمور من عقالها وتخرج عن السيطرة تماما ولو بشكل مؤقت، وهو يدرك أن تغيرات المشهد في الشرق العربي -الإسلامي لن تتوقف عند هذا الحد. لذلك كان لا بد من خطوة تنقذ نتنياهو وأقطاب حكومته من شرور أنفسهم. وهو لم يفعل ذلك تعقّلا وإنما تحسبا للقادم.

إن حال ترامب مع نتنياهو، في هذا المشهد، كحال ذلك الصبي المشاغب الذي لم يترك أحدا من أذاه، يضرب يمينا وشمالا ويؤذي كل شيء حوله حتى ضجّت منه ومن أذاه دوابّ الأرض، فكان لا بدّ له من “كبير” يلجمه ويخلصه من شرّ نفسه، ولم يكن أمام “كبيره” إلا أن يقيّد يديه وقدميه ويحبسه في جبّ حتى لا يرتكب المزيد من الحماقات التي ترتد عليه وتكلفه من نفسه ثمنا باهظا، وتكلف “كبيره” ثمن سوء تربيته.

***
وماذا بعدُ؟؟؟؟
هل انتهت الحرب؟
لا…!
الذي انتهى هي الجولة الحالية…
وستتبعها جولات….
متى وكيف؟
هذا في علم الله، غير أن المؤشرات تقود إلى الظنّ بأن ما يحدث في الضفة الآن مختلف هذه المرة…
فالحماقات تقود أصحابها دائما إلى مربعات لم يحسبوا لها حسابا..

تسأل: ألا يستفيد الأحمق من تجاربه التي خرجت من الفرن الآن؟ ألا يعتبر؟ ألا يتوقف ويفكر؟
وكيف يستفيد الأحمق؟!! ومن أي شيء يعتبر وهو أحمق؟ وهل يفكر الأحمق إلا بأنه غير الأحمق الوحيد على كوكب الأرض؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى