أخبار عاجلةمقالات

السلام عليك يا مخيم جنين

الشيخ رائد صلاح

السلام عليك يا مخيم جنين يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حيا، السلام عليك يوم كنت أرضًا جرداء لا بشر فيها ولا طير ولا شجر، فجاءك أهلنا مطرودين من لد العوادين وأم الشوف، وأم الزينات، والمنسة، وقمبازة، وجبع، والبويشات، وأبو زريق، وخبيزة، والبطيمات، ونصبوا على أرضك الجرداء خيامهم، وظنوا أنهم بعد برهة من الزمن سيُفككون خيامهم ثم سيعودون إلى تلك البلدات التي خرجوا منها مُشردين، حيث ظلت بيوتهم في تلك البلدات قائمة كما وَدّعوها، وظلت أواني طعامهم فيها، وظل فراشهم ولحافاتهم ووسائدهم فيها، وظلت جوابي بيوتهم مليئة بالقمح والعدس والسمسم والشعير، وظلت آبارهم مليئة بالمياه الصافية الزلال، وظلت بيادرهم طاهرة من أي سوء تنتظر موسم الحصاد القريب، وظلت حظائر مواشيهم تحتضن الأبقار والأغنام والخراف وكلابهم باسطة ذراعيها تحرسها، وظلت حواكير الزيتون واللوز والتين وسلاسل الصبار خضراء مورقة تنتظر مواسم جني ثمارها.

ولكن طالت الأيام على تلك الخيام منصوبة فيك يا مخيم جنين، ثم اقتلع أولئك الأهل المنكوبون سكان تلك الخيام خيامهم وبنوا بيوتًا من حجارة وطين، ثم بيوتًا من حجارة وإسمنت، وكأني بهم قد يأسوا من العودة إلى بلداتهم التي أُخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا نحن فلسطينيون!!

وكأني بهم ملوا الانتظار في خيام ممزقة ظلت الريح الغضوب تهز أركانها، وظل المطر الغزير يُغرق النائمين فيها، وظلت هوام الأرض من أفاعي وعقارب تقتحم عليهم سكينتهم ليلًا ونهارًا في الصيف، ومع أن خيامهم التي نصوبها فيك يا مخيم جنين قد تحولت مع طول أيام الصبر وأيام اللجوء وأيام المُعاناة إلى بيوت من حجارة وإسمنت، ومع أن وساوس يأس العودة إلى بلداتهم التي أخرجوا منها قد مست من مشاعرهم إلا أن حنين العودة إليها ظل هو الذي يملأ مشاعرهم ويُغذيها مع تعاقب السنين ويبني في قلبوهم وعقولهم الإصرار على حق العودة إلى هذه البلدات ولو طالت السنون وتجاوزت المائة عام.

وهكذا ظلوا صابرين مُصابرين فيك يا مخيم جنين وعيونهم ترحل كل يوم إلى لد العوادين، وأم الشوف، وأم الزينات، والمنسة، وقمبازة، وجبع، والبويشات، وأبو زويق، وخبيزة، والبطيمات، وظلت أنوفهم تشم كل يوم هواء كل تلك البلدات الذي كان يصل إليك يا مخيم جنين وهو يحمل لهم رائحة الزعتر والنعناع البري والزعيتمان ويهب عليهم بشذا الليمون والبرتقال واللوز والجرنك والمشمش ويوزع بين بيوتهم أريج النرجس والفيجن والحبق والميرمية والحنون، وهكذا ما كنت لهم يا مخيم جنين مجّرد بيوت وشوارع وحوانيت وأزقة، بل أصبحت في وجدانهم وضمائرهم مدرسة صمود في وجه الزعازع والأنواء، ومدرسة استعلاء على الظلم الإسرائيلي والقهر الإسرائيلي والإحتلال الإسرائيلي، ومدرسة أمل مهما احتشدت الشدائد وازدادت الخطوب وتزاحمت الفتن واسودَّ الليل وطال، ومدرسة يقين رغم كيد من خالفهم أو خذلهم أو آذاهم أو تربص بهم أو شمت بغربتهم أو رقص على جراحهم.

وهكذا أصبحت في فكرهم وفهمهم ورؤيتهم القلعة المُنزرعة كالطود الشامخ التي تحطمت على أعتابها خُدع مُنافقي العرب ومؤامرات فراعنة الغرب ما بين أوروبا وأمريكا ودجل شعارات الكثير من الهيئات الأممية التي دعت إلى السلام وقتلت السلام ودعت إلى حقوق الإنسان ووأدتها تحت التراب وثرثرت حول حق الشعوب في تقرير المصير وتخلت عن هذه الشعوب وهي ذبيحة من الوريد إلى الوريد، وهكذا وجد فيك هؤلاء الطريدون الشريدون يا مخيم جنين الحصن الحصين الذي حفظ الجيل الأول منهم وهم الآباء، ثم حفظ الجيل الثاني منهم وهم الأبناء، ثم حفظ الجيل الثالث منهم وهم الأحفاد، ثم حفظ الجيل الرابع منهم وهم أبناء الأحفاد، فكنت لهم هذا الحصن الذي احتضنهم واحتضن مفاتيح العودة التي ورّثها الآباء منهم للأبناء ثم انتقلت إلى الأحفاد ثم إلى أبناء الأحفاد.

وها هم أبناء الأحفاد ورثة هذه المفاتيح الذين يتشرفون أن وُلدوا فيك، وترعرعوا فيك، وشبّوا فيك، ها هم يعضون على هذه المفاتيح بالنواجذ، ويتمسكون بحق العودة غضًا طريًا كأنما وقعت نكبة فلسطين بالأمس وليس قبل قرن من الزمان، وكأنما أُخرج أجدادهم وآباؤهم من بلداتهم التي باتت مُهجرة خرساء ليلة الأمس أو ليلة أمس الأمس، وكأنما طوابين تلك البلدات التي انطفأ جمرها وذاب وأصبح رمادًا قبل عشرات الأعوام، كأن هذه الطوابين قد أرسلت دخانها من جديد، وفاحت رائحة خبزها من جديد، وفاحت رائحة المناقيش فيها والملاتيت وكعك العيد وشيّ الجزر والبطاطا من جديد.

وكأن ساحة العين في كل بلدة من هذه البلدات قد تزينت وصهلت خيولها وغردت عصافيرها وثغت شياهها وصاحت ديوكها وحام الحمام في سمائها فرحًا وبهجة وسرورًا واستعدادًا لعودة هذا الجيل الرابع -أبناء الأحفاد- كلٌ إلى أرضه وبيته ومقدساته حيث مسقط الرأس والجذور والتاريخ والحاضر والمستقبل، وهكذا أصبحت جمل محامل القضية الفلسطينية يا مخيم جنين، وهكذا أصبحت نبض حياتها وحافظ ثوابتها وخزينة قيمها ومعالم هويتها ورمز إرادتها وصوت حقها وشفق فجرها ولحن طموحها ونموذج استقامتها!!

ولا أدري هل لكل ذلك أنت مُحاصر الآن منذ أربعين يومًا يا مخيم جنين؟!، وهل لكل ذلك يُمنع عنك الماء والغذاء والدواء؟!، وهل لكل ذلك تُحرق بيوتك بالبث المباشر؟!، وهل لكل ذلك يُعتقل مرضاك الذين أعيتهم أوجاع الأمراض وهم على الأسرة في المستشفى؟!، وهل لكل ذلك تحطمت على أعتابك معادلة حرمة الدم الفلسطيني على كل فلسطيني بين كل أبناء الشعب الفلسطيني على صعيد الأشخاص والزعامات والفصائل والهيئات؟!، وهل لكل ذلك قتل الأخ الفلسطيني أخاه الفلسطيني وسالت دماؤه على ترابك المجبول بعرق الكادحين من الجيل الأول وهم الآباء من اللاجئين الذين أحببتهم وأحبوك؟!، وهل لكل ذلك بدأت يا مخيم جنين تتلوى ألمًا وحزنًا على كل قتيل في غمار هذه الفتنة الفلسطينية العمياء التي تجري في أرضك وتحت سمائك، وسواء كان القتيل من أبنائك أو من أفراد السلطة الفلسطينية؟!

لك الله يا مخيم جنين وأنت ترى الآن مصدومًا حائرًا دموع الأم الثكلى ودموع الزوجة الأرملة ودموع البنت المفجوعة وهي تسيل كالشلال على خدودهن حزنًا يُفتت الأكباد على حبيبهن القتيل في هذه الفتنة الفلسطينية العمياء!!

لك الله يا مخيم جنين وأنت مذهول شارد الذهن ومقطوع اللسان لا تُحسن أن تُجيب الأم الثكلى وهي تسألك في أتون هذه الفتنة الفلسطينية العمياء لماذا قتلوا إبني!!

لك الله يا مخيم جنين وها هي الزوجة الأرملة تصرخ فيك وأنت الشاهد والمشهود في هذه الفتنة الفلسطينية البكماء: هل كان زوجي عميلًا أم باع حق العودة أم سمسر على أرضه وبيته في بلدته المهجرة التي تنتظر عودته، أم تنازل عن ثوابت القضية الفلسطينية، أم تبرأ من انتمائه الفلسطيني؟!!

ما كان يومًا كذلك، بل عاش حرًا أبيًا فلماذا قتلوه؟!، لك الله يا مخيم جنين وأنت تذوب من الحياء أمام البنت المفجوعة وهي تقول لك في هذه الفتنة الفلسطينية الصماء: حاشاك أن تأذن لهم بقتل أبي يا مخيم جنين، فلماذا قتلوه؟!!. لك الله يا مخيم جنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى