أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (224) مرة أخرى.. شرق أوسط جديد….

حامد اغبارية

من هو الغبي؟

هو الذي لا يستوعب ما يُقال له.. حتى لو شققت مخّه نصفين وحشوته حشوا بالمعلومات، وزرعت فيه جهازا يساعده على الاستيعاب…. فالغباء به لصيق، وهو أولا وآخِرًا جندي من جنود الله…

ومن هو الأحمق؟

هو الذي يتصرف بتهوّر واستهتار دون تفكير بالعواقب ودون حساب لخطواته، فهو مستعد أن يدمر كل شيء ليثبت “نظريته”، على الجماجم وأنهار الدماء، ذلك لأنه غبيّ لا يستوعب ولا يتعلم الدّروس، لا من التّاريخ ولا من التجربة.

لذلك تجد في كوكبنا هذا الذي نعيش فوقه مجموعة متميّزة جدا من الأغبياء والحمقى، لا أدري إن كان في الإمكان العثور على شبيه لهم من التاريخ. وميزة هؤلاء وأشهر ما فيهم وأبرزُه أنهم يجمعون صِفتي الحُمق والغباء، حتى يصعب عليك التمييز ببينهما.

ومما ابتُليت به البشريّة في زماننا أصناف بشرية وُلدت مِن كذبة ونشأت على كذبة وتغذت بالكذب حتى أصبح الكذب يجري على لسانها سريان الدماء في العروق.

هؤلاء لا علاج لهم إلا بوسيلة واحدة، إذ لا تصلح معهم نصيحة لأنهم صمّوا آذانهم عن أي صوت غير أصواتهم، ولا ينفعهم تذكير بدروس الماضي، ولا يفيدهم نقاش ولا حوار ولا تنبيه ولا تحذير، لأنهم قد انتفش ريشهم، وتضخمت “أناهُم”، وعَلَوْا عُلُوًّا كبيرا، وعَتَوْا عُتُوًّا كبيرا. علاجُهم الوحيد هو أن يذوقوا التجربة على جُلودهم وتكويهم بنارها؛ أن تأتيَ اللحظة التي يدركون فيها أنّ ما صنعوا كيدُ ساحر، ليكتشفوا أنّه لا يفلحُ الساحر حيث أتى، وأنّ ما بَنوْا إنما هي قصور أوهام أوعز لهم بها شيطانهم الذي سيقول لواحدهم لحظتها: {إني بريٌ منك، إني أخاف الله رب العالمين}؛ ذلك عندما يروْن بأمّ أعينهم أنّ خططهم هباء وكيدهم هواء وأحلامهم خواء.

يتحدث الحمقى الذين هم أغبياء، هذه الأيام، عن “الشرق الأوسط الجديد”، الذي يريدونه هم بناء على مخططاتهم وخريطة طريقهم. وقد أشرت إلى هذه المسألة في مقال الأسبوع الماضي، ولكن يبدو أنّ الأحداث لا تترك لك مجالا لالتقاط الأنفاس، لشدة سرعتها وبأس وطأتها.

كان أول من تحدث عن الشرق الأوسط الجديد هو شمعون بيرس، ثعلب السياسة الإسرائيلية، الذي لا يقارَن به نتنياهو ولا بن غفير ولا سموطرتش. وقد ذهب بيرس، وذهب رابين وذهب ياسر عرفات، الذي أراد بيرس بناء شرقه الأوسط الجديد، من خلاله بكارثة “أوسلو”، وبقي الشرق الأوسط كما هو.

ثم جاءت إدارة بوش الابن لتطلق خطة “الفوضى الخلاقة” على لسان كوندليزا رايس، لصناعة شرق أوسط جديد يخدم مصالح أمريكا. وفكرة خلق الفوضى من خلال خطة مدروسة هي فكرة برنارد لويس، صاحب نظرية تمزيق الشرق الأوسط وتجزئته إلى فتات تسهل السيطرة عليه. وذهب بوش ورايس، بعد أن زرعوا الفوضى في المنطقة من خلال أكذوبة نشر الديمقراطية لمواجهة الصحوة الإسلاميّة، لكن السحر انقلب على الساحر، فلا الديمقراطية انتشرت، ولا الصحوة الإسلامية تراجعت، بل ازدادت عنفوانا.

إن تعامل الغرب، وفي مقدمته أمريكا، وبضمنه المشروع الصهيوني، مع العرب والمسلمين منطلقاته عنصرية استعلائية خلفياتها دينية عقائدية صرف، ينظرون إلى العرب والمسلمين من خلالها على أنهم مجموعة بشرية همجية تهدد الحضارة الغربية، ولمنع ذلك فإن على الغرب استعمارهم واستعبادهم وتفتيت قوتهم عن طريق التفتيت الجغرافي والطائفي، وخلق النزاعات وبؤر الصراع في كل المنطقة. وهذا تقريبا هو التطبيق العملي لنظرية المستشرق اليهودي الديانة، الصهيوني النهج برنارد لويس من ثمانينيات القرن الماضي، والتي يعتبر فيها أن المسلمين أناس فاسدون ومفسدون وفوضويون ولا يمكن نقلهم إلى مستوى الحضارة (الغربية)، لذلك فإن أفضل وسيلة للتعامل معهم هو استعمارهم (من جديد) والعمل بشكل ممنهج على تدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وهذه المهمة مهمة الولايات المتحدة. ومن الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، دون الالتفات إلى ردة فعلهم أو احتجاجهم، لأنه إذا لم تنجح السيطرة عليهم فإنهم سوف يدمرون الحضارة الغربية.

وليكن شعار إعادة احتلال المنطقة من قبل أمريكا أن هدفها هو تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وأثناء ذلك تعمل أمريكا على ما يسميه لويس تخليص الشعوب العربية والإسلامية من المعتقدات الإسلامية التي يعتبرها معتقدات فاسدة! بتغيير مناهجهم الدراسية وتجنيد إعلامهم من أجل هذه المهمة. وهذا في الحقيقة ما حدث ويحدث في بلاد العرب والمسلمين، بأشكال ووسائل مختلفة، حتى أنهم نجحوا أخيرا في إدخال “ديمقراطيتهم” إلى بلاد الحرمين، آخر قلاع الإسلام والمسلمين. لكنهم رغم ذلك فشلوا في إحداث التغيير الذي أرادوه خدمة لمصالحهم، لأن الهدف من وراء كل ذلك هو اجتثاث الصحوة الإسلامية الحديثة من جذورها، تلك الصحوة التي أدرك الغرب، كما أدرته الحركة الصهيونية، أنها هي التي ستنهي الهيمنة الغربية والصهيونية في المنطقة، وستعمل على رفع الظلم الذي نشرته “حضارتهم الغربية” في كل مكان.
وها هو نتنياهو يكرر ضلالاته عن “الشرق الأوسط الجديد”، الذي بدأه مع ترامب في فترته السابقة من خلال خلق ديانة جديدة، هي الديانة الإبراهيمية، التي يسعون بواسطتها إلى تحويل عقيدة المسلمين إلى مزيج من الضلالات والعقائد المنحرفة التي لا علاقة لها برسالة السماء الخاتمة.

إن لديهم خطة قد نسجوا لأجلها خارطة طريق اجتمع فيها غباؤهم وحمقهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، وأنها هي القاسمة الفاصلة التي ستمكّن لهم ولمشروعهم، وبدأوا يطبقونها خطوة خطوة، عن طريق خلق النزاعات الدامية والتوترات وإشعال فتيل الصراعات بين الدول تارة، وداخل الدولة الواحدة تارة أخرى، وبالتطبيع مع الأنظمة الفاسدة تارة ثالثة. وهي خارطة طريق يسعون من خلالها إلى بسط الهيمنة الكاملة على بلاد العرب والمسلمين، بعد تحويلها إلى وعاء فارغ من أي مظهر له علاقة بالصحوة الإسلامية، ليملؤوه بعقيدتهم المشوهة، التي تنشر بذور الشّر والفساد والفتنة والانهيار الأخلاقي في كل بقعة من أرض المسلمين، حتى بدا وكأن كل ما يجري إنما هو يسير في صالح مشروعهم وخطتهم: فأنظمة العرب صامتة متفرجة على ما يجري في غزة، وما يجري في غزة جزء من الخطة، وأحد أدوات تطبيقها فيما يبدو للرائي، وصمت الشعوب العربية والإسلامية يوهم بنجاح غير مسبوق في تحييد المد الشعبي والغضب الفِطري على ما يرتكب من مذابح وإبادة وتهجير وتدمير . ثم إذا بغزة تعود مرة ثانية لتقف وحدها، كما في كل الجولات السابقة، في مشهد خُذلان وسط محيط هائج مائج بالفتن، حتى بات هناك من يتخيّل أن كل شيء انتهى أو قارب على الانتهاء..

هكذا هو تفكير الحمقى والأغبياء، مِن الذين ينسِجون الخطط ويضعون نظريات الشرق الأوسط الجديد، ومِن الذين يصدقونهم أو يصدقون احتمالية نجاح خطتهم واقترابهم منها.، وهو تفكير من يتعاطون المسائل بالعاطفة، فينخدعون بما يروْن ويستسلمون لما يسمعون، وهؤلاء من أسرع الناس انهيارا وتسبُّبا في الانهيار، بعد أن عملت ماكنة الكذب على إعادة برمجتهم وصياغتهم من جديد كي يتحولوا إلى قطيع، لا يَرى إلا ما يُرى.
فإن كان الخذلان والعدوان جزءًا من المشهد فإنّ ذلك لن يضرّ غزة ولا أخواتها، وسيبقى أمر الله تعالى هو الذي ينهي المشهد ويختمه.

لديهم خارطة طريق؟ نعم.

لكن الله تعالى عنده خارطة طريق أيضا. “خارطة طريق” ربانية هي قدر الله بما فيه من علم الغيب. ولا نشك للحظة أن خارطة طريقهم هي نقطة مما في قدر الله. وأن ما يجري هو تمحيص واستدراج. تمحيص لأهله واستدراج لأهله كذلك.

نحن في منطقة أرادوها شرقا جديدا لهم، على مقاسهم وتبعا لمصالحهم، لكنه سيكون شرقا جديدا بغيرهم ولغيرهم، فهي منطقة كأنها تقف فوق فوّهة بركان سرعان ما ينفجر ليغيّر مجرى التاريخ، ويجعل البشرية كلها تبصق في وجوه كل الحمقى والأغبياء الذين خدعوهم وحرفوا بوصلتهم طوال تلك العقود.

الأيام حُبلى بأحداث عظيمة جليلة ذات شأن، تُفرح قلوب المظلومين، وتُفسد على الباطل والمُبْطلين والمُطبّلين خططهم وبرامجهم… إنها أحداث أشبه ما تكون بكرة الثلج، تبدأ صغيرة، فلا يلتفت إليها أحد، ثم تتدحرج وتكبر وتكبر حتى لا يستطيع أن يسيطر عليها أحد، ثم تأخذ كلّ شرّ وكل شرّير في طريقها، لا تبقي ولا تذر… حتى إذا وصلت خط النهاية تكون الأرض قد طهُرت من أوساخ الظالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى