معركة الوعي (214) البُعد الديني لمقولة “مِن حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها” وإستراتيجية “معاداة السامية”
حامد اغبارية
منذ بدأت حرب الإبادة المجنونة الّتي تشنّها تل أبيب على الشعب الفلسطيني والتي ما تزال مستمرة، ترددت عبارة “من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها” على كل لسان، حتى أصبحت مُنطلقا لكل المواقف السياسية الّتي تَصدُر عن رؤوس الإجرام الدوليّين ومافيات السياسة وعصابات “العدالة الدولية”، جنبا إلى جنب مع مصطلح “معاداة السامية”.
وحتى لا تختلط الأمور ويظنَّ ظانٌّ أن المصطلحيْن من إبداعات هذه الحرب، فإن حقيقتهما ترجع إلى عام النّكبة الذي أُعلن فيه قيام الدولة العبرية. وقد اعتمدت المؤسسة الإسرائيلية قائمة طويلة من المصطلحات والمقولات كجزء من الرواية الصهيونيّة، التي عملت من خلالها على تشكيل رأي عام عالمي مساند لسرديّتها، أسهمت في ترسيخه دولٌ وحكوماتٌ ومؤسساتٌ ووسائلُ إعلام غربية وشرقية. بل إن الماكنة الصهيونية، مسنودة بمدد أمريكي وأوروبي وبأقلام استشراقيّة، تمكنت عبر عقود من شراء ذمم واستئجار أقلام في العالم العربي، بما في ذلك في أوساط مجتمع الداخل الفلسطيني، إلى درجة أنك أصبحت تجد بين ظهرانينا كاثوليكيين أكثر من البابا. ومن تلك المصطلحات على سبيل المثال لا الحصر، “شعب الله المختار”، و”أرض الميعاد” و”الوعد الإلهي” و ” أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ” وغيرها كثير.
إن الإصرار والمثابرة على التكرار المَرَضيّ لمصطلح “من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها” لم يأت عبثا، ولا هو نابع فقط من منطلقات سياسية بحتة بهدف تبرير ما يرتكبه الاحتلال من جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني، بل إن له خلفية دينية متجذرة في السردية الصهيونية.
صحيح أنّ استخدام سمفونية هذه المقولة، التي ترددها صباح مساء جوقات الإجرام الدولية من المحيط إلى المحيط، أعطت وتعطي الاحتلال مساحة لا حدود لها من “الحرية” في استهداف الشعب الفلسطيني، دون أن تخشى عقوبة أو حسابا أو حتى مجرد مساءلة، غير أن المسألة أكبر من ذلك بكثير.
منذ تأسيس الدولة العبرية على أنقاض الشعب الفلسطيني عام 1948، وإيقاع النكبة على شعب أصيل كان يعيش بأمان في وطنه بحضور حضاري وثقافي وتاريخي قلما كنت تجد له مثيلا في منطقتنا، عكفت الماكينة الإعلامية الصهيونية، ومِن خلفها جوقات النفاق الدولي، ومِن أمامها أنظمة تواطؤ عربية وأنظمة خُذلان إسلامية، على تشكيل سردية ذات أبعاد دينية، كي تبرر ما جرى وقتها، وما جرى بعدها وما يجري الآن كذلك.
– قالوا: نحن “شعب الله المختار”، الذي اختاره الرب من بين المخلوقات ليُدَلّي (أو كما يقال بالعاميّة: ليُدندل) رجليه على رؤوس سائر الشعوب ويفعل بها ما يشاء، لأنه (أي الرب) خلق تلك الشعوب والبهائم والهوام والنبات والجماد من أجل خدمة شعبه. وقد وجدوا من يسند هذه الرواية في جهات كوكب الأرض الأربع، حتى وجدنا مِن بيننا مَن قال: حسنا؛ نقتسم الوطن بين أبناء العمومة. وكانت هذه أهون ما قيل. لأننا نجد اليوم من بين الذين باعوا أنفسهم من بني جلدتنا من يقول إنه ليس هناك شعب فلسطيني. وإن الأرض كلها لشعب الله المختار. بل أكثر من ذلك: نجد بيننا من يزعم أنه لا قدس ولا أقصى ولا إسراء ولا معراج ولا يحزنون.
– وقالوا: لأننا “شعب الرب” فإن من حق هذا الشعب أن يعود إلى “أرض الميعاد”، تلك الأرض التي أعطاها “رب الجنود” لإسرائيل. وليس مُهمًّا أنه ذات مرة كادت أن تكون “أرض الميعاد” في أوغندا، ومرة أخرى في الأرجنتين. فالأرض كلها للرب، وهو يعطي منها لـ “شعبه” حيث يشاء وكيف يشاء. وقد وجدت هذه الرواية على كوكب الأرض، الذي علا فيه الفساد وطفّ فيه صاع الكذب والدجل، من يدافع عنها ويساندها ويشنّ الحروب العسكرية والفكرية والثقافية والسياسية على من يخالفها. ولم تَنجُ مناهجُ التعليم في مدارس الأرض، من أمريكا إلى أوروبا إلى روسيا إلى الصين إلى الهند إلى أفريقيا إلى العرب العاربة والمستعربة، من تأكيدٍ لسردية “أرض الميعاد” التلمودية- التوراتيّة، وأفضلية “شعب الرب” على سائر الشعوب، وضرورة تبجيله، واتّخاذه قدوةً، والدفاع عن حقه، ومعاداة من يعاديه؛ حتى أن عصابات الإجرام الدولية أنشأت لأجل ذلك “صالونا فكريا أيديولوجيا سياسيا” من أجل حشد الحشود لمدّ تلك الرواية بأسباب الحياة والاستمرارية، وأطلقوا على ذلك الصالون، الذي هو أشبه ما يكون بالمواخير والغُرَز السياسية، اسم “هيئة الأمم المتحدة”.
– وقالوا: شعب بلا أرض، (والذي هو “شعب الرب”) جاء إلى أرض بلا شعب، فعمّرها بعد خراب. وأنشأ فيها حضارة بعد أن كان الجهل والضياع ينهش فيها، وألحقها بركب الدول الحديثة بعد أن تجذر التخلف الحضاري في أرجائها. وقد وجدت هذه الرواية من يروّج لها ويدافع عنها ويؤكدها كحقيقة تاريخية. وليس مُهمًّا وجود عشرة ملايين مخلوق بشري يعيش في هذه الأرض، وله تاريخ وحضارة وامتداد جغرافي وفكري وثقافي وديني وتاريخي. فربما أن هؤلاء خرجوا فجأة من تحت الأرض، أو ربما كانوا كائنات فضائية مريخيّة أو زُحَليّة جاءت لتنغيص حياة “شعب الرب” وافتراء روايات لا أصل لها. وليس مُهمًّا أنه خرج من أوساط “شعب الرب” من فلت لسانه- مثل إسحق رابين- وقال إن هذه الأرض لم تكن خالية كما كنا نقول… المهم أن “شعب الرب” قال، وليس على الجميع إلا السمع والطاعة وإلا….
– ولمّا أن المسألة هي كذلك، فإن من حق “شعب الرب” أن يدافع عن نفسه. وليس مُهمًّا كيف يكون هذا الدفاع. المهم النتيجة. وسواء دافع عن نفسه بتزوير الرواية، أو بشن الحرب ،أو إبادة شعب، أو سحق الحريات أو سلب الحقوق، فهذا يبقى مشروعا، لأن “شعب الرب” قال، وإذا قال “شعب الرب” فمعنى ذلك أن الرب هو الذي قال… فمن ذا الذي يجرؤ على مخالفة “رب شعب الرب”؟؟؟
هكذا يتضح لك البُعد الديني لمقولة “من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها”، لأنها بذلك إنّما تُحقق “وعد الرب” لـ “شعب الرب” في “أرض الميعاد”.. وعندها أمريكا وأوروبا والهند وأستراليا وكندا والأمم المتحدة يؤكدون ذلك، وجلّهم إن لم يكن كلهم، يقسمون على “الكتاب المقدس” ويلوحون به وهم يقفون على المنابر وأمام الشاشات. وكل من يخالف ذلك أو يحتج عليه أو يثور عليه أو حتى يطالب بتحقيق العدالة من خلال فحص كل تلك المقولات ومناقشتها ودحض أدلتها وتقديم أدلة تؤكد ما يخالفها، فإنّ مصيره كما ترون الآن، وكما رأيتم طوال سبعة عقود ونصف العقد: إما الموت سحقا بالدبابات ،وإما الموت قصفا، وإما الموت جوعا وعطشا ومرضا.. وأقل عقوبة على شق طوق الرواية هي التهجير أو السجن.. وهؤلاء ليس من حقهم الدفاع عن أنفسهم، ولا عن حقهم في الحياة- مجرد الحياة- ناهيك عن حقهم في وطنهم. فهذا الحق أعطي حصرا لـ”شعب الرب”، ومن يقول غير ذلك فهو يفتري على “رب شعب الرب”.
لا يكفي هذا.
فكما استأثروا باختيار الرب لهم دون سائر المخلوقات، فقد استأثروا كذلك بالعرق السامي. ولذلك فإن من ينبس بكلمة تؤذي مشاعر “شعب الرب” فهو معادٍ للسامية. ومن يتظاهر ويحتج ويرفع لافتة ويصرّح بتصريح أو يكتب كلمة ضد ممارسات “شعب الرب” فهو معادٍ للسامية. ومَن ينتقد الصهيونية فهو معاد للساميّة. حتى اليهودي الذي يعارض الصهيونية وممارسات المشروع الصهيوني الآن وقبل ذلك، فهو معاد للسامية (رغم أّنه من ذات “شعب الرب” ومن ذات العرق السامي). أما الفلسطيني والعربي فليس من حقهم الانتماء للعرق السامي. لأنهم إذا فعلوا فإنهم بذلك يعارضون إرادة “رب شعب الرب” وهذه جريمة تعاقب عليها أمريكا وأوروبا. وجدير بهؤلاء، بدلا من ذلك، أن يفحصوا جيناتهم في مختبرات أمريكا وفرنسا (أنا أفضّل مختبرات بريطانيا). وهناك بالتأكيد سيكتشفون أنهم أصلا لا ينتمون إلى شعوب الأرض، وأنهم مجرد قصة خيالية اخترعها مؤلف مجهول الهوية.