أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (191) عندما يكثر الحديث عن “دولة فلسطينية”!

حامد اغبارية

(1)

بينما تسيل دماء المدنيين الفلسطينيين أنهارا في غزة وفي الضفة الغربية، وبينما تعمل آلة الحرب الإسرائيلية على تدمير كل شيء في غزة، تهدم كل شيء وتجرّف كل شيء، وتمارس أعمالا انتقامية من كل شيء، وبينما الجوع والعطش هُما سيّدا الموقف في أوساط أطفال غزة ونسائها وشيوخها، وبينما تنطلق دعوات فاشيّة لمسح غزة تماما، تارة بقنبلة نووية وتارة بالإبادة، واستبدال أهلها بالمستوطنين، وحاراتها وأحيائها بالمستوطنات، يكثُر الحديث عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية…!

لماذا؟ وما السبب؟ ولأي شيء؟ وما الدافع؟ وماذا وراء الأكمة؟

لماذا هذا الإصرار المفاجئ من واشنطن تحديدا، وإلى جانبها تابعها الذليل بريطانيا والاتحاد الأوروبي على هذه القضية الآن بالذات، وفي ظل هذه الحرب المجنونة وغير المسبوقة في حجمها وامتدادها وأهدافها، التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي؟

كيف يمكن تفسير تكرار واشنطن لضرورة إقامة “دولة فلسطينية”، إلى درجة أنه يخيّل إليك أن هذا المصطلح الممجوج كررته واشنطن على لسان رؤوسها الكبيرة من بايدن ومن دونهُ اثناء هذه الحرب، أكثر مما كررته منذ توقيع اتفاقية “أوسلو” الكارثية؟

ولماذا تسارع لندن، التي هي السبب المباشر، تاريخيا وعمليا، في نكبة الشعب الفلسطيني، إلى الحث الشديد على ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية الآن إلى درجة أنها -يا للمفاجأة- أعربت عن امتعاضها الشديد من موقف نتنياهو الرافض لإقامة دولة فلسطينية؟

وما الذي حدث فجأة حتى يخرج الاتحاد الأوروبي بالمطالبة بفرض دولة فلسطينية على تل أبيب؟

(2)

نحن لا نسأل عن شكل الدولة الفلسطينية، ولا عن مساحتها، ولا عن نظام الحكم فيها. وبالتأكيد لا نسأل عن مستقبل المستوطنات الإسرائيلية التي مزقت الأراضي المحتلة عام 1967 إلى أشلاء غير قابلة للالتحام. ولا نسأل إذا ما كانت هذه الدولة ستكون منزوعة السلاح أو منزوعة الدّسم. ولا نسأل عن الجهة التي ستكون مسؤولة عن الجانب الأمني في هذه الدولة، أهي تل أبيب، أم واشنطن، أم الأردن، أم مصر، أم الأمم المتحدة بجيشها المثير للرعب المسمى “يونيفيل”!

نحن لا نسأل عن هذا كلّه، فهذه كلها من المسائل الهامشيّة التي لا يليق الخوض فيها في ظل صوت المدافع وقصف الطائرات.

نحن فقط نسأل: ماذا عدا مما بدا؟

شعبنا الفلسطيني “خُزقت” طبلة أذنِه وهو يسمع عن دولته العتيدة على مدار ثلاثة عقود.

أين كانت واشنطن ولندن والاتحاد الأوروبي طوال هذه العقود، حتى بدأت الآن الحديث بقوة وعنفوان عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية؟

لماذا لم يتحدثوا عن فرضها على تل أبيب قبل ذلك؟ وهنا ليس مهمَّا كيف سيفرضونها! سواء كان بتوجيه صفعتين قويتين مجلجلتين على خدّي نتنياهو، بينما يصيحون في وجهه: اقعد واسكت. بدّك تقبل غصبا عنك وعن اللي خلّفوك! وسواء بتسيير الجيوش والأساطيل وحاملات الطائرات إلى شواطئ تل أبيب وحيفا.

نحن فقط نعبّر عن الاستغراب من هذه الهبّة الرسمية الغربية التي صدرت بصوت واحد: دولة فلسطينية الآن…
ولا نرى حاجة إلى تسفير وجه الاستغراب أكثر مما فسّرنا، لكن سنجتهد في تفسير السبب وراء هذه الجوقة النشاز.

(3)

القضية وما فيها أن إقامة (وليس قيام) دولة فلسطينية منزوعة الروح والمعنى ستمنع ما هو أكبر من ذلك.

وبطبيعة الحال هناك فرق شاسع بين (إقامة دولة) وبين (قيام دولة). فـ (إقامة دولة) تكون بدفعٍ خارجي على مقاس الدّافع وحسب رغباته. بينما (قيام دولة) يكون ذاتيا بقرار ذاتي وبقدرات ذاتية. هكذا قامت -على سبيل المثال- الدولة الإسلامية، ومثلها الدولة العثمانية. والأمثلة من التاريخ حاضرة بقوة، وإن كانت قليلة يمكن إحصاؤها. بينما من حولنا دولٌ أقيمت ولم تقُم ذاتيا. دول صُنعت على عين الاستعمار، وإن قيل إنها دول نالت استقلالها وهي ذات سيادة وما إلى ذلك من خترفات. وقد أقيمت لهدف. وهذا الهدف ليس فيه مقدارُ ذرّة مما يصب في مصلحة شعوب هذه الدول ولا حاضرها ولا مستقبلها ولا أي شيء له علاقة بها، بل هو هدف يخدم الذين أقاموها.
فهُم، إذًا، يريدون دولة فلسطينية على مقاسهم، تخدم مصالحهم، وعلى رأس هذه المصالح ألّا تكون هذه الدولة عقبة في طريق المشروع الصهيوني الذي تُعتبر المؤسسة الإسرائيلية الإنجاز الأول فيه. فالمشروع الصهيوني أكبر بكثير من مجرد دولة كما نعرفها الآن.

فما هو الذي هو أكبر من مجرد دولة “دولة فلسطينية أوسلويّة”؟

علينا أن ندرك- بداية- أن بلاد المسلمين وفي القلب منها الشام، وفي القلب منه بيت المقدس، ما زالت واقعة تحت وطأة الحملات الصليبية التي انطلقت في القرن الحادي عشر الميلادي (1099م). فهذه الحملات لم تتوقف لحظة واحدة، حتى لو أجمع مؤرّخو الأرض على أنها انتهت. ولقد سمعنا ذلك مباشرة على ألسنة قادتها بصور وأشكال مختلفة.

لذلك فإن ما يجري الآن في المنطقة أضاء الضوء الأحمر أمام هؤلاء. سواء قادة المشروع الصليبي أو المشروع الصهيوني.
هناك حدثٌ ضخم سبّبَ صدمة كبيرة لهؤلاء مجتمعين ومنفردين. والحديث ليس فقط عمّا حدث يوم السابع من ترشين الأول الماضي. بل إنه ما يجري على أرض غزة. هذا الحدث أثار ويثير الرعب والفزع في نفوس الغرب جميعا وفي نفوس قادة المشروع الصهيوني.

بقعةُ أرض صغيرة، هي أكثر بقعة على كوكب الأرض فقرا واكتظاظا بالسكان، لا تملك شيئا من مقوّمات الحياة، وهي تعاني من حصار مستمر منذ 17 سنة، يشارك فيه “الأشقاء” قبل الاحتلال، ورغم ذلك استطاعت اجتراح حدث مزلزل كهذا.

والسؤال الذي نسأله على لسان هؤلاء، وهو سؤال تسأله مراكز الأبحاث الاستراتيجية في عواصم الغرب وفي تل أبيب: كيف حدث هذا؟ وما هي القوة الكامنة في غزة؟ بل على العكس، تعاني من الخُذلان الصريح والمباشر؟ والسؤال الأكبر والأهم: إلى ماذا يرمز هذا؟ أو بكلمات أخرى: ماذا يحمل المستقبل من وراء هذا الحدث؟

طبعا تستطيع أن تسأل مراكز الدراسات الاستراتيجية حول العالم، وهناك ستجد الجواب. ويمكنك أن تجد الجواب متناثرًا في أبحاث ودراسات أكاديمية غربية وإسرائيلية تتحدث عن مستقبل المشروع الصهيوني المرتبط مصلحيا وفكريا وعقديا بالمشروع الصليبي الغربي الذي قادته ذات يوم إمبراطوريات الشر في أوروبا؛ وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، وتقوده اليوم الولايات المتحدة الأمريكية.

تعيدك الذاكرة إلى تصريح نطق به لسان الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن، صاحب مشروع السيطرة الكونية المعروف باسم “حرب النجوم”، والذي قال -في فترة حكمه في الثمانينات- إنه يعتقد أن معركة “هرمجدون” أصبحت على الأبواب. هذا كلام قيل قبل أكثر من أربعة عقود على لسان رئيسٍ يؤمن بنبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.

وتعيدك الذاكرة إلى تصريح آخر نطق به لسان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن عشية الحرب على العراق عام 2003، حين قال إن الحرب الصليبية الجديدة قد انطلقت الآن. وهذا كلام قيل قبل عقدين من الزمن.
ولو نبشتَ ذاكرتك قليلا لسمعت قادة المشروع الصهيوني يتحدثون بكلام مماثل. بين من قال: لا نريدها حربا دينية تؤلّب علينا مليارا ونصف مليار مسلم، وبين من قال: لا تجعلوها حربا دينية، لأنه إذا وقعت فسوف تبتلعنا. وبين من قال: إنهم يريدون إقامة دولة الخلافة، ونحن سنمنع ذلك. وبين من تحدث عن لعنة الثمانين سنة للدولة العبرية، ومن تعهد أمام شعبه بأنه يستطيع أن يضمن بقاء الدولة حتى تبلغ المائة سنة…. ومثل هذا كثير كثير… وهو لا يصدر عبثا،ـ بل تقف خلفه قراءات ونبوءات وعقائد.

فما هو الشيء الأكبر من إقامة دولة فلسطينية؟

إنها دولة الخلافة، التي يعتقدون أن هرمجدون ستقع معها لا محالة، ولذلك لا بدّ من منع حدوث ذلك، أو تأخيره لأطول مدة ممكنة.

وللتنبيه فقط: إن مشكلتهم ليست مع الذي “يريدون إقامة دولة الخلافة” أو الذين يتحدثون عنها، وإنما مشكلتهم مع حقيقة قيام هذه الدولة. فالذين يتحدثون عن قيامها إنما يؤمنون بأنها قائمة لا محالة، لأنها وعد الله وبشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا المشكلة. لماذا؟ لأن الصليبية والصهيونية تعلمان أن هذا واقع لا محالة.

فلماذا يحاربونه إذًا؟
اسأل مشركي قريش الذين علِموا بصدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به وحاربوه. واسألوا يهود المدينة الذين أيقنوا بأنه نبي آخر الزمان ورغم ذلك قاتلوه، واسألوا هرقل الروم الذي قال وهو يسأل أبا سفيان عن الرجل الذي ظهر فيهم: لو لقيتُه لغسلت قدميه، ورغم ذلك أظهر له العداوة وشن عليه الحروب..

فهل ألقت الحرب الحالية على غزة بظلالها على هذه المفاهيم؟
أسمعُ بلسان حال كثيرين من يقولون: إذا كانت غزة بما هي عليه من ضعف وضيق معيشة وقلة إمكانيات تفعل هذا كله، فكيف سيكون الحال لو أن قوى أخرى مماثلة خرجت فجأة من أماكن أخرى واتخذت قرارها؟!
لسان حالهم يؤكد هذا. وكذلك لسان مقالهم الذي يردد منذ بدء هذه الحرب: لا نريد لهذه الحرب أن تتسع أكثر. علينا بذل كل ما يمكن لمنع اتساع رقعة هذه الحرب.

من أجل ذلك دخل الرعب في قلوبهم أكثر عندما تحركت اليمن في باب المندب. وهذه مسألة ليست عابرة، بل تحمل معاني مؤشرات كثيرة طالما سعى الغرب إلى استبعادها ومنع حدوثها.
وأستطيع أن أستحضر ما يفكرون به الآن: ماذا لو أغلق باب المندب تماما؟ وماذا لو أغلقوا في وجوهنا مضائق تيران ورأس الرجاء الصالح؟ إنها الكارثة! كارثة على كل المستويات.
والسؤال: هل بدأ الغرب ومعه المشروع الصهيوني الربط بين ما يجري اليوم وبين ما سيجري غدا؟
أعتقدُ جازما أن الأمر كذلك حقا.

هل أدركتَ الآن لماذا “يَشُدّون على حالهم” من أجل (إقامة دولة فلسطينية) حتى لو كان ذلك رغم أنف تل أبيب؟!
آخر سؤال: هل ستُقام دولة فلسطينية كما يريدون؟
الجواب بكل لغات العالم: لا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى