أخبار رئيسيةمقالاتومضات

صراع قِيم محموم

الشيخ رائد صلاح

كما هو مُلاحظ لكل عاقل فإن قوى الاستكبار اليوم وفي مُقدمتها أمريكا لم تكتفِ بفرض معانٍ مُحرفة على مصطلحات ذات وقع جميل على أذن كل إنسان ذي ضمير حي، كمصطلح السلام وحق تقرير المصير والشرعية الدولية وحق الدفاع عن النفس وحماية المدنيين وحقوق المرأة ورعاية الطفولة وسلامة المناخ والعدالة الاجتماعية، ولم تكتفِ بإفراغ هذه المُصطلحات من معانيها الحقيقية، وترك هذه المُصطلحات مُشوهة كلما لاكتها ألسن الناس ورددتها وسائل الإعلام وتداولتها مراكز الأبحاث والدراسات، بل إن قوى هذه الاستكبار العالمي وفي مقدمتها أمريكا باتت تتعامل مع هذه المُصطلحات كملك شخصي لها، وكأنه لا يحق لأحد سواها استخدام هذه المُصطلحات وتحديد معانيها وإسقاطها على أرض الواقع، وكأن قوى هذا الاستكبار العالمي وفي مقدمتها أمريكا لما احتكرت هذه المُصطلحات، واحتكرت الحق في استعمالها، واحتكرت تحديد معاني هذه المُصطلحات، كأنها لما احتكرت كل ذلك، فقد باتت هي الوحيدة التي تملك القيم العالمية، وأما ما سواها من أهل الأرض فهم يعيشون بلا قيم، ولا يحق لهم إدارة حياتهم ولا أوطانهم ولا ثرواتهم بدون وصاية من قوى هذا الاستكبار العالمي وفي مُقدمتها أمريكا.

وعليه فإننا نعيش اليوم صراع قيم محموم، بين قيمنا الربانية التي تُعلي من شأن هذه المُصطلحات وتحفظ لها معانيها الحقة الربانية وتُقدمها كمُنقذ لكل أهل الأرض، وبين القيم الممسوخة المُنحرفة الشمطاء التي انتجتها قوى هذه الاستكبار العالمي وفي مُقدمتها أمريكا طامعة بفرضها على الأرض بلغة النار والحديد، أو بلغة الوصاية أو بلغة الحصار والتجويع أو بدوام الهيمنة المُتوحشة على هيئة الأمم المُتحدة وتوابعها وسحب بطاقة حق الفيتو كلما لزم الأمر.

وإذا ظل أهل الأرض محكومين بقواعد هذه اللعبة الخبيثة التي هي أشد فتكًا من الجمرة الخبيثة، فإن كل أهل الأرض سيظلون مُحتلين إمّا باحتلال قائم على سياسة العصا الغليظة أو باحتلال قائم على سياسة الأساليب الناعمة، وهو ما يؤلم كل حر في هذه الأيام، فهي كل شعوب الأرض مُحتلة اليوم بما في ذلك الشعوب المُسلمة والعربية وشعبنا الفلسطيني، في مُقابل قوى هذا الاستكبار العالمي وفي مُقدمتها أمريكا التي تُبيح لنفسها فرض هذا الاحتلال على كل ما سواها من شعوب الأرض.

لذلك فإنّ من حق شعوب الأرض أن تغضب على هذا الاحتلال سواء كان مكشوفًا أو مُبطنًا وأن ترفضه، وأن تدعو إلى التخلص منه حقيقة لا ادّعاء!!، وهذا يُلزم شعوبنا المُسلمة والعربية وشعبنا الفلسطيني إذا أرادت أن تتحرر صدقًا وحقًا من هذا الاحتلال المُتوحش المارق الجاثم على صدورها اليوم والكاتم لأنفاسها أن تُواجه أدوات هذا الاحتلال المُلوثة والآسنة بأدوات طاهرة ونبيلة، وهذا يُلزمها أن تواجه السياسة الانتهازية والمُنافقة كأداة من أدوات هذا الاحتلال المُتوحش المارق بسياسة مُنضبطة وصافية، وأن تواجه دبلوماسيته الغادرة والمُتقلبة بدبلوماسية سامية ونظيفة، وأن تواجه تحالفاته القائمة على الإفساد والاستغلال بوحدة إسلامية عروبية فلسطينية قائمة على التمسك بالثوابت الإسلامية العروبية الفلسطينية، وفوق كل ذلك فإن هذه الوحدة الإسلامية العروبية الفلسطينية هي الوحيدة من بين كل شعوب الأرض التي تملك مُقومات التفوق على قوى هذا الاستكبار العالمي وفي مُقدمتها أمريكا، وتقديم نفسها كبديل راشد إنساني عالمي عن قوى هذا الاستكبار العالمي وفي مُقدمتها أمريكا!!

لماذا؟! لأن هذه الوحدة الإسلامية العروبية الفلسطينية هي التي تملك القيم الربانية التي من شأنها أن تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورا، ولا يملك هذه القيم غيرها إلا من اعتنق هذه القيم وآمن بها صادقًا وانضبط سلوكه بها، فعندها سيُصبح تلقائيًا جزءًا من هذه الوحدة الإسلامية العروبية الفلسطينية بغض النظر عن لونه ونسبه ولغته وموقعه الجغرافي من الأرض، ويوم أن تقوم هذه الوحدة الإسلامية العروبية الفلسطينية وفق الأصول المطلوبة، ويوم أن تؤدي دورها كما يجب، فسيفرح لها كل أهل الأرض لأنها ستكون هي الدواء لأمراض إنسانيتهم، وهي الري لعطش أرواحهم، وهي الحضن للمظلوم فيهم وللاجئ والشريد والطريد والمُحتل والمُسعتبد والحاسر والعاني والمسكين واليتيم والأسير.

وأنا على يقين أن كل عاقل من أهل الأرض بات في شوق لرؤية هذه الوحدة الإسلامية العروبية الفلسطينية والانحياز إليها والانخراط فيها، ودليلي على ذلك هو رد الفعل العالمي عابر القارات على الكارثة الإنسانية في غزة الذي نُشاهده اليوم ونقرأ ماذا يكتب اليوم في مواقع تواصله، لدرجة أن الآلاف يتهافتون اليوم بلا توقف على المراكز الإسلامية المُنتشرة في غير بلاد المُسلمين والعرب والفلسطينيين لإعلان إسلامهم، وكم صدق د. أحمد نوفل عندما قال في برنامجه (دُنيا ودين) الذي تبثه قناة اليرموك: إن عدد من أسلموا مع بداية الكارثة الإنسانية في غزة يفوق عدد من أسلموا خلال القرن الماضي!، ولذلك ففي الوقت الذي نرفض فيه سطوة قوى هذا الاستكبار العالمي وفي مقدمتها أمريكا على أهل الأرض، فلنقل بلا تلعثم: نحن نرفض هذه السطوة على كل أهل الأرض وليس علينا فقط، ونريد الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير لكل أهل الأرض وليس لأنفسنا فقط، ونحن مع كل مظلوم في كل الأرض ونحن نصير له وليس مع المظلوم منا فقط، ألم يقل الفاروق عمر رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، ألم يقل المفاوض ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم الفرس: (الله ابتعثنا لنُخرج الناس من عبادة العباد لعبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدُنيا إلى سعة الدُنيا والآخرة)، ألم يُحسن مُحامي المظلومين جعفر بن أبي طالب تسليط الضوء على أصول قيمنا يوم أن تكلم بين يدي النجاشي حاكم الحبشة في حينه مما دفع ذاك الحاكم أن يُسلم.

ولذلك لنقل بملء فمنا وبلا تلعثم: نحن نملك قِيمًا ربانية عالمية إنسانية أبدية، تقوم على قاعدة: (لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى)، وإن من شأن هذه القيم أن تصنع الأخوة الإنسانية العالمية بين الشعوب وهي وحدها فقط، وإن هذه القيم تحمل القابلية لإرساء قواعد سلام عالمي ونشره في كل الأرض يقوم على أساس وثيقة التعايش التي صاغها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من مكة المُكرمة إلى المدينة المُنورة، وإن هذه القيم تملك أن تُعالج أزمة الفقر والجهل والمرض والجوع في العالم لأنها تملك عدالة اجتماعية لا تملكها الرأسمالية المُتوحشة ولا الشيوعية الفاشلة، وإن هذه القيم تملك القدرة على ضبط حياة كل أهل الأرض في أوضاع سلمهم وحربهم وهو ما عجزت عنه هيئة الأمم المُتحدة العجوز وتوابعها، وإن هذه القيم تقول لنا: لا إكراه في الدين، وتنهانا عن إلحاق الأذى بالكُنس والكنائس والصلوات والبيع إلى جانب صيانة المساجد.

ولذلك في الوقت الذي نرفض فيه الاحتلال الإسرائيلي ونتمسك بمطلب قيام الدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس المُباركة المُحتلة، فإننا نتقدم بكل قيمنا لكل أهل الأرض حتى تكون سفينة نجاة للبشرية المُهددة بالغرق في هذه الأيام، فيا ليت قومي يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى