أخبار رئيسيةمقالاتومضات

مرحلة مُخزية من عمر البشرية

الشيخ رائد صلاح

كانت ولا تزال قناة “أبو ظبي الوثائقية” تبثّ برنامجًا بعنوان “سمكة التونة العنيدة”، وهو برنامج مُثير للتساؤل حول حقيقة شعار “الرفق بالحيوان” الذي ترفعه المدنية الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي، حيث أن هذا البرنامج يوثق صراعًا محمومًا في البحر بين مجموعات أمريكية من صيادي سمكة التونة، ويُبين لنا هذا البرنامج سلفًا أن كل واحدة من هذه المجموعات اقتنت مركبًا آليًا لنفسها، وتزودت بكامل أدوات الصيد بداية من الصنارة ورماح الصيد والحبال المتينة لتقييد سمكة التونة التي قد تنجح بصيدها من ذيلها، وتزودت بالطعم المُغري الذي تضعه في كل صنارة لها لاجتذاب سمكة التونة إلى هذا الطُعم ثم صيدها، ومن يُتابع حلقات هذا البرنامج “سمكة التونة العنيدة” يجد أنها تقوم على قواعد متوحشة، حيث أن كل مجموعة من مجموعات هذا الصيد الجائر لهذا المخلوق النادر “سمكة التونة” والتي بات يُهددها خطر الانقراض، إن كل مجموعة من هذه المجموعات تظهر في كل حلقة من هذا البرنامج وقد نصبت مجموعة صنارات على أطراف مركبها البحري، وقامت بإلقاء كل خيط صنارة منها في البحر، ثم تواصل مراقبة كل خيوط صناراتها، حتى ترى أن خيط أحد هذه الصنارات بدأ يهتز بسرعة، وبدأ مخلوق بحري يشدهُ للأمام، عندها يتنادى أفراد كل مجموعة منها، ويصيح كل واحد منهم “هناك التقاط”، ثم يتقدم أحدهم ويبدأ بسحب خيط الصنارة التي اصطادت “سمكة تونة” حتى إذا ما ظهرت هذه السمكة فوق سطح البحر وما عاد يُغطيها إلا القليل من الماء، يتقدم شخص آخر من هذه المجموعة وهو يحمل رمحًا طويلًا يوجهه إلى “سمكة التونة” طامعًا أن يغرزهُ في رأسها أو في صدرها، وقد يخطئ الإصابة فيُعاود الكرة مرة أو مرتين ويوجه رمحه إلى “سمكة التونة”، فإذا ما غرزهُ في جسدها يبدأ بسحبها وهي عالقة في رمحه نحو حافة المركب غير آبه بألمها الشديد الذي تمر به في تلك اللحظات وكأنها على فراش الموت، حتى تُلاصق حافة المركب فيقوم شخص ثالث من أفراد هذه المجموعة ويضع حبلًا حول ذيلها ويشدهُ بإحكام حول هذا الذيل، ثم تقوم كل المجموعة بجر هذه السمكة إلى سطح المركب، وهم يُصافحون بعضهم بنشوة لا حدود لها مُجردة من أي شعور بالرحمة!!

وعندما شاهدتُ إحدى حلقات هذا البرنامج تذكرتُ مشهد “مُصارعة الثيران” في إسبانيا، وعاد إلى مُخيلتي مشهد ذاك المُصارع الذي يحمل منديلًا كبيرًا أحمر بيده، ويحمل بيده الأخرى حزمة رماح، ثم يبدأ هذا المُصارع بالتلويح بهذا المنديل الأحمر أمام ثور ضخم الجثة ذي قرون لاستثارته، فإذا ما هاج هذا الثور لرؤية هذا المنديل الأحمر الذي يلوح أمامه فإنه ينقض بسرعة البرق لنطح هذا المُصارع بقرونه، وعندها يتحايل عليه هذا المُصارع ويُتيح لهذا الثور أن ينطح المنديل الأحمر، ثم يُكرر هذا المُصارع حيلته للمرة الثانية، ويُواصل التلويح أمام عينيّ الثور بمنديله الأحمر، حتى إذا ما هاج هذا الثور وانقض عليه غاضبًا لينطحه، فإن هذا المُصارع يخدع هذا الثور للمرة الثانية ويُتيح له نطح المنديل الأحمر فقط، وهكذا يعود هذا المشهد على نفسه عشرات المرات، حتى يُنهك هذا المُصارع عزيمة هذا الثور، ويبدأ هذا الثور بالتأرجح، عندها يبدأ هذا المُصارع باستغلال كل فرصة لطعن هذا الثور برمح في عنقه، ثم يطعنه برمح آخر في عنقه، وتبدأ دماء الثور بالسيلان كالشلال، لدرجة أنها قد تُغطي حلبة هذه المُصارعة، ثم يُواصل هذا المُصارع طعن هذا الثور المسكين الموجوع الذي يَخور ألمًا برمح ثالث ورابع وخامس، حتى يسقط هذا الثور على الأرض مضرجًا بدمائه وهو بين الحياة والموت وقد غاصت الرماح في كل بقعة من عنقه، وهكذا تنتهي هذه المُصارعة وسط تصفيق مئات الحضور الجالسين على المُدرج الدائري الذي يُحيط بحلبة هذه المُصارعة، والغريب العجيب أنه يتم تصوير إعدام هذا الثور بادّعاء أنها “مُصارعة ثيران” كما يتم إعدام “سمكة التونة” بادّعاء أنه سباق بين مجموعات صيادين أمريكيين!!، ثم يتم بث حلقات “مُصارعة الثيران” في مئات القنوات!!

ثم توقفت هذه المُصارعة فجأة تحت ضغط جمعيات “الرفق بالحيوان” التي طالبت بإلغائها وقد تكون بعض هذه الجمعيات أمريكية، بادّعاء أن هذه المُصارعة إيذاء لهذا الحيوان الذي اسمه الثور والتنكيل به بلا شفقة ولا رحمة، والغريب العجيب أنه لا يزال يجري حتى الآن سباق إعدام “سمكة التونة”، ولا يزال يجري تصوير هذا السباق ثم بثه في القنوات الفضائية!! لماذا؟! أظن لأن هذا السباق أمريكي! وللمدنية الأمريكية أن تفعل ما تشاء، وأن تُحرّم على غيرها ما تشاء مستبيحة لنفسها في الوقت نفسه ما حرّمته على غيرها!!، مع التأكيد أن مشهد سباق إعدام “سمكة التونة” ليس هو الوحيد في مسيرة المدنية الأمريكية، بل كان هناك مشهد إعدام “الهنود الحمر” في بدايات تأسيس المدنية الأمريكية، ثم كان هناك مشهد التلهي بإعدام الأبقار السائبة في السهول الواسعة الأمريكية، حيث قرأتُ في إحدى دائرات المعارف أن هذه السهول الواسعة كانت تحتضن عددًا لا يُحصى من الأبقار السائبة، ثم بدأ عدد هذه الأبقار السائبة يتناقص، حتى بدأ شبح الانقراض يُهدد هذه الأبقار السائبة!!

أتدرون لماذا؟! لأن شبكة سكك القطارات بعد أن تمددت في مُعظم سهول أمريكا، وبعد أن ازداد عدد القطارات التي كانت تجوب أمريكا شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، والتي كانت هي وسيلة النقل الأساس قبل صعود نجم الطائرات، كان المسافرون الأمريكيون يتلهون خلال سفرهم الطويل في تلك القطارات بصيد تلك الأبقار السائبة، لا لأكلها بل للتمتع بقتلها فقط، حيثُ كان الواحد من هؤلاء المُسافرين يفتح نافذة القطار ويُخرج بندقيته، ثم إذا مر القطار على قطيع من هذه الأبقار السائبة كان يُطلق عليها الرصاص مواصلًا سفرهُ في القطار، وتاركًا ضحاياهُ المُعدمة من الأبقار السائبة خلفهُ، ثم كان يفتل شاربهُ الأمريكي مؤكدًا لكل المُرافقين في قطار سفره أنه صياد ماهر ورميته لا تخطئ.

وهكذا كان مشهد موسم صيد الثعالب في بريطانيا، حيث كان يجوب الغابات البريطانية في هذا الموسم الآلاف من الطبقات الارستقراطية تصحبهم قوافل كلابهم المُدربة ذات الأنف الذي لا يُخطئ لإعدام أكبر عدد من الثعالب، من باب التلهي بإعدامها، والتباهي بين نُزلاء القصور البريطانية!!، وليس بعيدًا عن كل ذلك ما قرأناه عن المدنية الرومانية البائدة التي كانت تبني المُدرجات العملاقة حول حلبة صراع واسعة، ثم بعد أن كانت تحتشد تلك المُدرجات بطبقات النُبلاء الرومانيين رجالًا ونساءً، كانت تجري أمامهم مُصارعة بين أسد وواحد من طبقات العبيد أو طبقات الفلاحين حتى الموت، فإما أن يفترس الأسد هذا المسكين وإما أن ينجح هذا المسكين بقتل هذا الأسد وسط زعيق ونعيق ومكاء وتصدية أولئك الحضور من طبقات النُبلاء!!، وعلى ما يبدو فإن هذه النفسية المارقة التي أنتجتها المدنية الرومانية والتي استباحت التلذذ بإعدام الآخر سواء كان إنسانيًا أو حيوانًا، يبدو أنها لا تزال تُسيطر على السياسات الرسمية الغربية حتى الآن بشقيها الأوروبي والأمريكي، ولعل ذلك يُساعدنا على فهم سر الغزو الغربي لشعوبنا المسلمة والعربية خلال القرنين الماضيين من عمر البشرية، ثم سر الغزو الغربي لشعوب أفريقيا واسترقاقهم، ثم سر الغزو الغربي لشعب فيتنام، وشعب أفغانستان وشعب البوسنة والهرسك، وشعب الشيشان، وشعب كوسوفا، وشعب العراق!!

ثمّ لعل ذلك يُساعدنا على فهم سر إصرار الزعامات الكبيرة الرسمية الغربية بشقيها الأمريكي والأوروبي على مواصلة فرض الكارثة الإنسانية على غزة، فهكذا كانت جذور هذه الزعامات يوم أن كانت مدنية روما، ثم بعد أن شهرت أوروبا سيوف الصليبية العمياء وارتكبت المجازر في العالم الإسلامي، ثم بعد أن أعلن الرجل الأبيض الغربي عن نفسه وصيًا على العالم، ووقع العالم تحت براثن الاستعمار الغربي بما في ذلك العالم الإسلامي والعربي والشعب الفلسطيني، ولا يزال هذا الاستعمار المُتوحش يتنفس حتى الآن، ولا تزال خيرات كل أهل الأرض تُجبى إليه على حساب أوبئة المرض والجوع والجهل التي تعصف بشعوب الأرض المُستضعفة في هذه الأيام.
هي مرحلة مُخزية من عمر البشرية يجب أن تنتهي، ويبدو أن بداية تخليص كل البشرية من هذه المرحلة المُخزية ستتحقق يوم أن يمتلك شعبنا الفلسطيني كل حقوقه، ويوم أن تقوم له الدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس المُباركة المُحتلة ذات القيم والثوابت الإسلامية العروبية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى