أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (181) نتنياهو يبحث عن “صورة انتصار” للنزول عن الشجرة

حامد اغبارية

“اذهب إلى غزة”… هذه الجملة؛ “الشتيمة”، يستخدمها الإسرائيلي عندما يريد أن يتمنى لقَبيلِه أن يلاقي الجحيم. وهي جملة بديلة لجملة “اذهب إلى الجحيم”، مع التنبيه (الضروري) إلى تشابه لفظتي “غزة” و”الجحيم” باللغة العبرية. من أجل ذلك ما زال الإسرائيلي يذكر تلك الجملة الشهيرة التي عبّر فيها إسحق رابين عن حقيقة الواقع في التعامل مع غزة، عندما قال: “ليت غزة تغرق في البحر”، ذلك أنها بالنسبة للإسرائيلي، خاصة العسكري، هي عش دبابير من المفضل عدم الاقتراب منه أو حتى المرور بجانبه… وأي عاقل يقترب من عش الدبابير؟ وأين هذا الذي لسعته الدبابير ولا يتمنى أن تختفي في قاع البحار؟

وهكذا استفاد الجنرال أريئيل شارون من مقولة الجنرال رابين فقرر الانفصال عن “عش الدبابير” عام 2005. ومَن مثل الجنرالات العسكريين يعرف لماذا يُفضّل غرق غزة في البحر، ولماذا يفضّل الانفصال عنها؟!!

وأظن أن بنيامين نتنياهو وحاشيته السياسية والعسكرية يدركون تمام الإدراك معنى مقولة رابين تلك وقرار شارون ذاك، خاصة وأن نتنياهو (الذي أيّد خطة الانفصال عن غزة) جرّب المجرّب في مواجهات عسكرية مع غزة (2012 و2014)، وخرج من حربين بنتائج يعرفها الجميع، أقلها أنه لم يحقق شيئا من ورائهما.

الآن، وبينما تجري المعركة سجالا على أرض “عش الدبابير”، يتضح، بما لا يدع مجالا للشك لدى الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين والخبراء الاستخباريين وغيرهم، أن قرار الدخول البرّي هو أحد أكثر القرارات غباء. فهناك شبه إجماع، حتى في أوساط محللين إسرائيليين، يتحدثون بنصف لسان تصريحا أو تلميحا، على أن التورط في وحل غزة ثمنه باهظ جدا ونتائجه- من حيث تحقيق الأهداف المعلنة- تقارب الصفر. غير أنه لم يكن أمام نتنياهو إلا أن يقدم على هذه الخطوة، علّه يحقق شيئا يعفيه من التبعات أو يخفف من عواقب الفشل الأمني غير المسبوق الذي سُطّر في سجلّه الشخصي يوم السابع من تشرين الأول الماضي.

قرر نتنياهو (الموصوف في أوساط الإسرائيليين بالتردد والجبن وتغيير المواقف كما يغير جواربه، والتصرف بعكس ما يقول…) الدخول البري إلى غزة بقوات غير مسبوقة وأسلحة وعتاد بحجم حرب كبرى بين دولتين عظميين، وهو يستحضر في ذهنه مقولة رابين وقرار شارون، لأنه يعلم أن إمكانيّة تحقيق ما أعلن عنه من أهداف عقب صدمة 7/10/2023 أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع.
فلماذا قرر الدخول إذًا، طالما أن المسألة بهذه الصورة وهذه الخطورة؟

تخيّل الآن معي لو أنّ نتنياهو قرر الاكتفاء بالقصف الجوي ودك البيوت والعمارات فوق رؤوس أصحابها، دون أن يقترب قيد أنملة من الأهداف المعلنة، كيف سيكون شكله عندما تتوقف الأعمال الحربية؟ وبماذا سيرجع إلى شعبه؟ وماذا سيقول لهم؟ وبأي شيء سيبرر فشله في تحقيق الأهداف، وعلى رأسها استعادة أسراه من مدنيين وعسكريين، والقضاء على حركة حماس وإنهاء سيطرتها على غزة؟

سيكون المشهد على مستوى الشارع الإسرائيلي فشلا في الحملة العسكرية، وسيكون المشهد على المستوى الدولي أن دولة تملك كل عناصر القوة العسكرية والسياسية وتحظى بدعم دولي غير مسبوق، خرجت من حربها بآلاف الضحايا من المدنيين الغزيين أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير البنية التحتية، وتدمير المشافي والمدارس والمساجد والكنائس والمؤسسات المدنية، ورجعت إلى شعبها بخفي حنين.

لذلك فإن نتنياهو أراد من وراء الدخول البري إلى غزة أن يبحث عن صورة انتصار، مهما كان حجمها صغيرا، حتى لو كان قدر رأس الإبرة، حتى يتمكن من النزول عن الشجرة العالية التي تسلقها بقفزات كبيرة دون أن يحسب حسابا للعواقب. فبغضّ النظر عن البيانات العسكرية والمؤتمرات الصحافية والتصريحات المتواصلة حول إنجازات لجيش الاحتلال في غزة إلا أن واقع الحال يشي بعكس ذلك ويقدم صورة مغايرة. فحتى الآن لم ير العالم سوى التجريف والقصف الجوي للمدنيين وآلاف الجثث والأشلاء المتناثرة في كل مكان، ومسح الأحياء الكاملة عن وجه الأرض واستهداف كل ما له علاقة بأسباب الحياة من مياه وكهرباء وغذاء وماء ودواء. وهذه كلها – كما يقول الخبراء العسكريون- ليست أهدافا عسكرية، وليست وسيلة للوصول إلى أهداف عسكرية. أضف إلى ذلك أن استمرار الحرب وتفاقم الوضع المأساوي في غزة، قد يقود إلى توسيع رقعة الحرب ودخول جهات أخرى فيها بشكل غير مسبوق، وهو ما لا تحتمل تل أبيب تكلفته، رغم إعلاناتها المتكررة بأنها جاهزة لكل السيناريوهات.

يبحث نتنياهو عن صورة انتصار كي ينهي المشهد الحالي ويرجع منه بشيءٍ مَا، بعد أن بدأ الدعم الدولي، بما فيه الأمريكي، يتراجع ويتغير، وبعد أن بدأت جهات دولية تمارس الضغوط من أجل وقف القتال، أمام مشاهد سفك الدماء البريئة، التي هي أقرب إلى عمليات الانتقام منها إلى قاعدة “احتمال وقوع ضحايا مدنيين أثناء الحرب”!
فما هي صورة الانتصار التي يمكن أن يكتفي بها نتنياهو؟

منذ بداية الأزمة وضع نتنياهو وماكينته الإعلامية (العسكرية والمدنية) مجمع الشفاء الطبي هدفا مركزيا، بحجة أن قيادات حماس تختبئ في أنفاق تحته، ولا بد من الوصول إليه لتحقيق الهدف الأكبر من وراء هذه الحرب.
إذًا يشكل اقتحام مجمع الشفاء الطبي أول من أمس الأربعاء أحد كبريات الوسائل للنزول عن الشجرة. وربما يكتفي نتنياهو بهذا “الإنجاز” ليبدأ بعده العد التنازلي للنزول. ولا بدّ من بعض المشاهد الهوليوودية التي تمنح نتنياهو “صورة الانتصار” المنشودة.

يحدث هذا بينما تجري وراء الكواليس مفاوضات تبادل الأسرى، والتي من شأنها أن تثمر خلال أيام عن نتائج إيجابية، يستطيع نتنياهو من خلالها أن يقول لشعبه إنه نجح في تحرير “الرهائن والمخطوفين”، دون أن تكون هناك أهميّة لكيفية حدوث ذلك. فالمجتمع الإسرائيلي (المنقسم على نفسه) لا تهمه طريقة استرجاع أسراه بقدر ما يهمه استرجاعهم. وهذا ما سيسخّر نتنياهو كل قدراته الإعلامية لتسويقه بعد انجلاء غبار المعركة. بل إن المجتمع الإسرائيلي، ولأول مرة في تاريخ الصراع، أبدى قبوله بقاعدة “الجميع مقابل الجميع”. أي جميع المخطوفين مقابل جميع الأسرى الفلسطينيين. وهذا له دلالاته وتداعياته حاضرا ومستقبلا.

في هذه الأثناء ما تزال المعركة جارية على الأرض، ولا أحد يعلم حقيقة المشهد الميداني الكامل، فما نراه على الشاشات ليس هو الواقع، أو على الأقل لا يعكس كل الواقع. وربما تمتد هذه الحرب وتطول أيامها وقد تتوقف فجأة، وقد تشهد هوامشها العريضة تفاصيل كثيرة بعضها غير متوقع. الحقيقة الوحيدة التي يؤكدها الواقع أن هناك عشرات آلاف المدنيين في غزة يخيم عليهم شبح الموت، وأن مشاهد أشلاء الأطفال والنساء والرضع والخدّج ومشاهد جثث النساء والأطفال المتناثرة في الشوارع لا تُمسح من الذاكرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى