منك المهر ولك الجنة وزيادة
الشيخ كمال خطيب
لأنّها الدنيا التي اجتمع فيها على الناس ما لذّ وطاب، وتوفّر فيها للناس من أسباب الراحة والرفاهية ما هو من ضروب الخيال، حتى لكأن الدنيا هذه قد أصبحت هي الجنة الحقيقية في عيون هؤلاء، فلم يعودوا يذكرون الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين يوم القيامة. نعم، لقد غاب الحديث وحتى التفكير الأخروي عن أجندات كثيرين من الناس بل ومن المسلمين، لأن الدنيا وبريقها الزائف قد سلب عقولهم ناسين أن جنة الله فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأن هذه الدنيا بكل متاعها لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء.
وعليه فإنها تذكرة وإنها هزة وإنها صرخة وإنه نداء من محب لمن غفل وفتن وشدّته الدنيا وجذبته إليها لعلّه ينفلت من جاذبيتها القاتلة فيعود إلى سلوكه الإيماني الأول وإلى بقايا فطرة، وإلى آثار مواعظ ونصائح ما تزال عالقة في وجدانه، فيغذّيها ويحييها ليعود فينطلق بجدٍ وعزم نحو تفكير آخروي به يسلك دروب السائرين إلى الجنة فيدركها بإذن الله تعالى.
وما أجمل ما قاله الأستاذ خالد أبو شادي فك الله أسره من سجون السيسي في كتابه الرائع -ليلى بين الجنة والنار-: “هناك مخزون فطري عاطفي في قلب كل واحد منا، وإن لم يُوجّه ناحية الفضائل وأعمال الخير وما يترتب عليها من الجنة والنعيم استُنزف القلب ولا بد في عشق امرأة أو تجارة أو عمل، والسباق بين الجنة وما دونها من هذا الحطام قائم اليوم على أشده، أيهم يحظى بقلبك أولًا، وأيهم يمتلك روحك قبل الآخر، ومن ظفر وانتصر صعب عليه أن يتنازل لغريمه عما ظفر به. فالقلب تتصارع بداخله أهواء كثيرة، فإذا قوي واشتد أحدها غلب القوي منها الضعيف وأخرج الأعز منها الأذل، وإذا حازت الدنيا قلبك تحولت داخلك إلى عدو، وكيف الاحتراز من عدو بين الضلوع؟ “.
هل من مجيب
لقد نادى الله سبحانه الذين آمنوا وطالبهم بالاستجابة له سبحانه ولرسوله ﷺ فقال: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} آية 24 سورة الأنفال. إنها الدعوة للإسلام الذي فيه حياتنا من موات كما قال سبحانه: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} آية 122 سورة الأنعام. فلكأنه سبحانه يقول لنا أننا بغير الإسلام فنحن أموات ولا حياة لنا إلا بالإسلام وبالاستجابة لله سبحانه وللرسول ﷺ.
فإذا كانت الاستجابة منا له سبحانه فإنه لا أقل من جزائنا على ذلك إلا الجنة كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} آية 18 سورة الرعد. وليس بالاستجابة لأمر الله ورسوله بالفوز بالحسنى أي الجنة وإنما بضمان البعد عن النار بإذنه سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} آية 101 سورة الأنبياء.
إنَّ عدم الاستجابة لله عز وجل ولرسوله ﷺ لضمان الفوز بالجنة، فإنه لن يعوض ذلك بالافتداء ودفع أموال الأرض كلها لأن الله لن يقبلها {وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفْتَدَوْاْ بِهِ} آية 18 سورة الرعد. وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ} آية 91 سورة آل عمران.
وزيادة
أن بالاستجابة لأمر الله تعالى وطاعة رسوله ﷺ فليس أن فيه الحياة فقط، وليس أن جزاء المستجيب الجنة فقط لكل ما فيها من نعيم، وإنما هناك زيادة في التكريم منه سبحانه {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} آية 35 سورة ق. {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} آية 26 سورة يونس. إن الزيادة وإن المزيد إنما هي لذة النظر إلى وجه الله الكريم.
إنك إذا اشتريت من بائع بضاعة ودفعت الثمن ثم قال لك بعد ذلك: وهذه مني لك هدية زيادة عما اشتريت، فإنك تشكره وتقدّر له حسن صنيعه معك لأنه منحك وأعطاك ما لم تدفع فيه شيئًا وإن كانت قيمته متواضعة ولله المثل الأعلى.
فكيف إذا كنت اشتريت الجنة بعملك وطاعاتك وقرباتك وصدقاتك واستجابتك لأمر الله ورسوله فيعطيك الجنة ثمنًا لعملك ويعطيك فوقها زيادة هي النظر إلى وجهه الكريم، قال رسول الله ﷺ: “إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه. فيقولون وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار، فيُكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقرّ لأعينهم، وإذا تكرّم الجليل على عباده بالنظر إليه والتلذذ برؤية وجهه الكريم فإنهم ينسون نعيم الجنة كما قال الإمام الحسن: “إذا تجلّى لأهل الجنة نسوا كل نعيم الجنة”.
صحيح أن هناك تفاوتًا حتى بين أهل الجنة بمقدار ومعدل رؤيتهم لوجه ربهم سبحانه كما قال ابن السعدي في تفسير قوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبها نَاظِرَةٌ} آية 23-24 سورة القيامة. وهذا التفاوت يكون بحسب المراتب في الجنة حيث جنّات عدن والخلد والفردوس والنعيم. وإن من أهل الجنة من ينال شرف النظر إلى وجه الله تعالى بكرة وعشيًا، ومنهم من ينظر إليه كل يوم جمعة.
يا من استجبت في الدنيا لأمر الله، وأطعت رسوله، واتبعت شريعته، ونصرت دينه، فما أعظم من أن يجمع الله عليك نوعي النعيم، نعيم التمتع بالجنة ونعيم التمتع برؤية وجهه الكريم والنظر إليه {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} آية 22-24 سورة المطففين.
إن آثار لذة النظر إلى وجه الله تعالى تظهر من خلال مسحة الوجه وأنواره، وكيف لا تكون هذه الوجوه ناضرة وهي التي تكون إلى ربها ناظرة وقد قال في هذا سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} آية 26 سورة يونس. إنها الوجوه التي يغيب عنها القتام والسواد والحزن، وكيف يحزنون وهم {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} آية 170 سورة آل عمران.
هيا إلى الميدان
إن الوصول إلى الجنة ونيلها ونهاية ميدان السباق الذي يبدأ من لحظة بلوغ الإنسان سن التكليف، ليصبح عند ذلك كل همّه وشغله الشاغل ليس إلا الجنة وانتهاء مشوار التعب والضنك كما قال أبو بكر رضي الله عنه: “لا راحة للمؤمن إلا مع أول قدم له يضعها في الجنة”.
وإن بلوغ الجنة ونيلها يتطلب خوض ميدان صراع مع الشهوات والغرائز ومع الشيطان ومع النفس الأمّارة بالسوء، وصراع مع الدنيا وبريقها ولمعانها الزائف، وأن يظلّ تفكيرك مشغولًا بالجنة وهذا ميدان آخر كذلك كما قال سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} آية 26 سورة المطففين. وكما قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} آية 21 سورة الحديد.
وما أجملها وأصدقها مقولة أبي عبد الله القرشي لما قال: “سيروا إلى الله عز وجل عرجًا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة”. في إشارة إلى من يتذرع لتقصيره بأسباب وذرائع واهية.
وهكذا سار إلى الله الصحابي الجليل عمرو بن الجموح رضي الله عنه يوم خرج إلى معركة أحد مع أنه كان من أصحاب الأعذار فقد كان أعرجَ رضي الله عنه، وقد جاء إلى رسول الله ﷺ قبل المعركة يطلب منه الإذن بالخروج قائلًا: “يا رسول الله إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد، والله إني لأرجو أن أخطو بعرجتي هذه في الجنة”. وأمام إصراره الشديد وهمته العالية فقد أذن له الرسول ﷺ بالخروج إلى الجهاد، فدعا عمرو رضي الله عنه ربه قائلًا: “اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي”.
نعم إن نيل الجنة يبتغي التنافس والسباق دون علائق وجواذب تشد المسلم إلى الوراء، ولأنها الجنة كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يتقدم على نيلها شيء، فقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي ﷺ فآمن به واتبعه وقال: أهاجر معك. فأوصى النبي ﷺ بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم رسول الله ﷺ فيها أشياء، فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم (جمالهم وخيولهم)، فلمّا جاء دفعوا إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله ﷺ ، فأخذه فجاء به النبي ﷺ فقال: يا محمد ما هذا؟ قال: قسمته لك. قال: ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى ها هنا وأشار إلى حلقه، بسهم فأموت وأدخل الجنة. فقال: إن تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلًا ثم نهضوا إلى العدو، فأُتي به النبي ﷺ يُحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي ﷺ أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه. فكفّنه النبي ﷺ في جبّه ثم قدّمه فصلّى عليه، فكان مما ظهر (سمع بصوت مرتفع) من صلاته عليه: “اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقُتل شهيدًا أنا شهيد عليه”.
إنها الجنة كما وصفها ابن القيم رحمه الله:
يا جنة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدًا لا اثنان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الخطّاب عنك وهم ذوو إيمان
قال رسول الله ﷺ: “ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة”.
ركضًا إلى الله
إنها الجنة ما أن سمع عمير بن الحمام رضي الله عنه رسول الله ﷺ يوم بدر يقول: “والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض”. فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. قال: بخ بخ (كلمة تطلق في تفخيم الأمر وتعظيمه في الخير)، فقال رسول الله ﷺ: ما يحملك على قولك بخ بخ؟. قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، ثم أخرج تمرات من جعبة السهام فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ثم رمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم وهو يقول رضي الله عنه:
ركضًا إلى الله بغير زاد إلى التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة للنفاد
غير التقى والبر والرشاد
وظلّ يقاتل حتى قُتل رضي الله عنه. إن الجنة وبلوغها جعلته يلبي نداء رسول الله ﷺ بلا تواطئ ولا توان، ولا نظر إلى الدنيا وزخارفها وزينتها ولا تفكير بالأهل والعشيرة. إنهم أصحاب رسول الله ﷺ قد بذلوا أموالهم، بل وأرواحهم شوقًا إلى الجنة وما عند الله من النعيم المقيم. إنها الجنة وزيادة هو النظر إلى وجه الله يوم القيامة.
اللهم ارزقنا لذّة النظر إلى وجهك الكريم يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من أصحاب الوجوه الناظرة إلى ربها ناظرة.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.