أخبار رئيسيةمقالاتومضات

إسرائيل على مفترق طرق (1-2)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

قامت إسرائيل ضمن مفاعيل العلاقة بين الغرب والمشرق العربي والإسلامي، وسقوط الدولة العثمانية، وفرض الوجود العلماني الليبرالي، ومن بعد الوجود العلماني الاشتراكي/الماركسي على التركة العثمانية/التركية، لتعيش الأمة ومن ضمنها الشعب الفلسطيني والداخل الفلسطيني أزمات وصراعات مع الدخيل، عبر صراعات هوياتية، تجلّت أبعادها بوضوح بعد الربيع العربي، ولا تزال تداعياتها إلى هذه اللحظات بما خلفته من ندوب في شعوب المنطقة وتحديدًا السني منها.

وكان الرابح الوحيد ولا يزال إسرائيل الدولة والكيان، حيث شكَّلت الرّدة على أمل الشعوب العربية والفلسطينية بالتحرر من ربقة الاستعمار الداخلي والخارجي بوابة التطبيع الذي فُتِحَ على مصراعيه، وتُرِكَ الشعب الفلسطيني في مواجهة الآلة الاستعمارية الإسرائيلية، وكان من خلاصات هذه المرحلة مراجعات بعض الحركات الإسلامية لمسيراتها انتهى بعضها بإعلان الطلاق الرسمي بين الدعوة والسياسة كالحالة التونسية، وإعادة ترميم العلاقة مع محور إيران كما حدث مع حماس.

وتزامنت هذه المراجعة مع إقرار من طرف الحركة بحدود عام 1967م ضمن فلسفات معينة كان قد ابتدأها بعض من قيادات الحركة في كتابة مقالات في هذا الباب في الصحافة الأمريكية، وارتمت حركات أخرى في أحضان الأنظمة ودخلت الحركة الإسلامية الجنوبية عبر ذراعها السياسي إلى حكومة بنيت-لبيد كشريكة في الائتلاف في أول تداخل بين طرفي صراع تاريخي، الحركة الإسلامية والحركة الصهيونية. وقد عمدت هذه الأطراف التي تفاوضت الجنوبية معها إلى اتهامها بالإخوانية كبيان من طرفها الشعبوي والتعبوي لمعالم الصراع مع الصهيوني العلماني-اليساري.

 

على مفترق طرق..

إسرائيل اليوم ليست كإسرائيل الأمس، وإن كانت المحصلة التي نعيش من تداعيات الماضي السياسي والاجتماعي الإسرائيليين، إذ لطالما دار صراع خفي بين المكونات الإسرائيلية المختلفة، ولطالما سعى اليمين للتمكن من الحكم ومفاصله منذ عام 1977 ووصل إلى هذه اللحظة، لحظة حكم التيار اليميني بمركباته المختلفة ليتحدث علنًا عن مرحلة جديدة ومستقبلية في العلاقة البينية السياسية الإسرائيلية التي لمَّا يستوي عودها السياسي.

ومع فوز اليمين وتشكيل الحكومة وعمله الدؤوب على خلق تغييرات أساسية في البنية القانونية والقضائية، ومن ثمَّ في الحُكم والحوكمة ومحاصرة كل ما يتعارض مع اليهودية كدين وهوية بغض النظر عن مصدريته ومن يتعاطى ويتعايش ويتعامل معه من اليهود وغيرهم، ومع سن القوانين الساعية لتغيير السلطة القضائية وتحجيمها لصالح السياسي/ المُشرع، دخلت إسرائيل البدايات الفعلية لمفترق طريق مجهول المستقبل، مليء بالتكهنات والتصورات وكيف سيكون شكل الدولة. وكشفت كافة استطلاعات الرأي أن الانقسام البين إسرائيلي هو انقسام أفقي طال المجتمع بكل مركباته ومكوناته، وعامودي طال المؤسسة الحاكمة بكل أجهزتها ومفاعيل القوة الكامنة فيها. وقد وصلت تداعيات الأمر إلى الساحة الأمريكية، الساحة الخلفية الحقيقية لقراءات السياسة الإسرائيلية برسم وجود إسرائيلي كبير ممثل لمختلف النسق السياسي الأيديولوجي وله تأثيراته الكبيرة على صناعة القرار السياسي بسبب العلاقة الممتدة والدولة الأمريكية الراعية لإسرائيل في كافة قضاياها، إذ تعمل على تطبيع وجودها وجعله طبيعيًا وجزءًا من الحالة الشرق أوسطية والبحر المتوسط. وفي ظل هذه الحكومة وصلت العلاقات مع هذه الحكومة إلى مفترق طريق خاصة، وأن اليمين الديني لم يترك واشنطن بدون انتقادات.

العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية علاقات راسخة ببعديها الاستراتيجي والديني المُغذي للاستراتيجي والتحولات الجارية في الإقليم، خلاصاتها إعادة ترتيب الأوراق، وما عودة أردوغان إلى تبني سياسات أحمد داوود أوغلو في تصغير المشاكل مع محيطها الإقليمي والاستراتيجي، إلا من بيانات التحولات الجارية في المنطقة. وكل ما يحدث في المنطقة سيكون له تأثير على راهن ومستقبل القضية الفلسطينية وإسرائيل، وطبعًا الداخل الفلسطيني. في هذا الخضم والسياق، لا تتوقف المؤسسة الإسرائيلية، بغض النظر عن الجهة الحاكمة، عن سياسات الاستيعاب والتدجين والفرز والتحوير (التعديل والإعادة والمراجعة) في المناهج والبرامج والسياسات للداخل الفلسطيني.

ومتابعة سريعة على سبيل المثال لا الحصر لمسائل التكوين والتمكين النسوي وتداعياته العلنية والخفية على مجتمعنا، تضعنا أمام حقائق مذهلة في بيان التفكيك المجتمعي وإعادة رسمه من جديد على أسس ومعايير ليبرالية وافدة، هدفها الأساس تحقيق البقاء والديمومة مقابل الفناء (الفناء الأخلاقي والقيمي بتبني قيم وأخلاقيات وسلوكيات ذات نمط علماني سائل أساسه التفاهة والاستهلاك المؤسس على الواقع الرقمي) والتبعية، وهي في هذا تموضع نفسها في العلاقة القائمة مع الداخل الفلسطيني على مفترق طريق، ستكون له تداعيات سياسية واجتماعية على الصعيد الداخلي للفلسطينيين والعلاقات مع الآخر الإسرائيلي.

المجتمع الإسرائيلي منذ لحظاته التأسيسية الأولى وهو يعيش أزمات راكمت بعضها بعضًا، جعلته مميزًا عن مجتمعات أخرى في عالم بعد الحربين الأوروبيتين في النصف الأول من القرن الفائت، إذ لا يزال الصراع الفكري-الأيديولوجي-الاكاديمي قائمًا بين المنظرين الإسرائيليين حول جوهر وماهية المجتمع الذي تمَّ تخليقه بعد قيامها من شتات تم تجميعه من شتات الأرض، هل هو مجتمع غربي حامل للقيم الليبرالية يتموضع في المنظومة الغربية أم مجتمع محافظ يتموضع في المشرق الذي يعيش فيه، وبين هذا وذاك تتجلى بعض من معالم السنن القدرية في مصائر هذه الدولة القائمة على الأرض المباركة والمجتمعات الساكنة عليها.

طالب رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان الذي شغل عدة مناصب في الحكومات الإسرائيلية اليمينية (الخارجية، الدفاع، المالية) قائد هيئة الأركان هارتسي هليفي بالاستقالة إذا ما تم التصويت بالقراءة الثالثة على قانون “عدم المعقولية ” الذي يعتبر المفتاح والمقدمة للعديد من القوانين التي ستمس الجهاز القضائي وعلاقته مع صانع القرار السياسي، محتجًا بأنَّ القانون سيلحق ضررًا محضًا بالمصالح الوطنية والقومية فضلًا عن مس فاضح بمؤسسات الدولة وفي مقدمتها الجيش الذي يعتبر عمليًا الحامي للديموقراطية من جهة، وللهوية اليهودية من جهة أخرى، حيث تسعى هذه الحكومة للمس في التوازن القائم بينهما إسرائيليًا لمصلحة فئة ومجموعة حاكمة رهنًا على حساب الآخرين ممن يرفضون تقديم الدين على الدولة، وفيهم عددٌ من المتدينين اليهود من المدرسة الإصلاحية والتقدمية.

وهذه من معالم وجود الدولة على مفترق طرق بين القوننة والتشريع التي يتم سنها والعمل الوزاري أو العامل بمقتضاها لتمرير سياسات وفرضها على مجموعات بعينها، وبين ممارسات تعلن الفوقية والعلو على الآخر وتفرض عليه أنماط عمل لا يقبلها نفسيًا ومعنويًا وماديًا وفكريًا.

نعيش هذه الأثناء الدورة الثانية من عمر هذه الدولة التي استعمل دهاقنتها الدين جسرًا لبناء الدولة، واستحلوا كل فعلٍ يصل بهم إلى الدولة بما في ذلك الإبادة والقتل والتشريد، وها نحن نعيش لحظات نشوة انتصار اليمين الديني الذي يرنو للسيطرة المطلقة على الحكم ومفاصله ويفكر بصوت عالٍ في نكبة ثانية لشعبنا الفلسطيني على غرار الأولى، معتمدًا القوة والبأس الشديدين الذي تتمتع بهما الدولة.

وفي الوقت ذاته، يعمل اليمين- وعلى مدار الساعة- على تغيير شكل المجتمع والدولة من خلال القنوات القانونية والتشريعية حيث تشهد الكنيست حملة غير مسبوقة في تاريخها لسنّ قوانين هدفها موضعة القيم اليهودية والدين موضع التنفيذ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، شهدت الكنيست يوم الثلاثاء الماضي إحالة مشروع قانون حل هيئة مكانة المرأة إلى لجنة مشتركة برئاسة رئيس لجنة الدستور، عضو الكنيست سمحا روتمان، بدلًا من إحالتها إلى لجنة النهوض بمكانة المرأة برئاسة عضو الكنيست بانينا تامنوشتا من المعارضة، وقد تمت الموافقة على مشروع القانون، الذي طرحته عضو الكنيست عن عوتسما يهوديت ليمور سون هار ميلخ، وقرر الائتلاف نقل القانون إلى لجنة تحت سيطرته لعدم السماح للمعارضة بإحباطه. وهذا القانون بما يحمله من خلفيات أيديولوجية يلقي الضوء على حجم الهوة والخلاف بين الطرفين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى