أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (163) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (1)

حامد اغبارية 

قبل بضعة أشهر ناقشتُ في خمسة مقالات كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم” للمستشرقيْن اليهوديين الإسرائيليين يتسحاق رايتر ودفير ديمنت، والذي كان عبارة عن محاولة يائسة لإثبات حق لليهود في المسجد الأقصى المبارك استنادًا إلى “مصادر إسلامية”! وقد أثبتُّ في تلك المقالات، بالدليل وبالنّصوص، بطلان المزاعم التي وردت في ذلك الكتاب.

وفي هذه السلسلة سأناقش- بحول الله تعالى- كتابا آخر ليستحاق رايتر، رئيس الجمعية الإسرائيلية لدراسات الشرق الأوسط والمحاضر في كلية القاسمي في باقة الغربية، والذي شغل في السابق نائب مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية في حكومات بيغن وشامير وبيرس. والكتاب بعنوان “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل”، والذي يسعى المؤلف من خلاله إلى العثور على شرعية للسلام مع تل أبيب، من خلال نصوص إسلامية قديمة ومعاصرة.

والكتاب يقع في 208 صفحات، وهو من إصدار “معهد القدس لأبحاث إسرائيل” عام 2014.

ولعلّك تكتشف أول خطأ وقع فيه المؤلف (متعمدا أو عن جهل) في عنوان الكتاب من خلال استخدامه مصطلح “الإسلام المعاصر”، إذ ليس هناك إسلام معاصر وآخر قديم. فالإسلام واحد لا يتغيّر. وهو الإسلام الذي جاء به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ووُضعت أسسه بأصولها وفروعها وتفصيلاتها من خلال مرجعيّة كتاب الله القرآن الكريم، وسنّة النبي عليه الصلاة والسلام.

وإن استخدام مصطلح “الإسلام المعاصر” يشبه مصطلحات استشراقية أخرى، مثل مصطلح “الإسلام السياسي” و “الإسلام المعتدل” و”الإسلام المتطرف” وغير ذلك من المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والّتي يبدو بوضوح أن الهدف منها إيهام الذين لا يملكون أدنى حدّ من معرفة الإسلام بأن هناك أكثر من إسلام.  فـ”الإسلام السياسي” كمصطلح معاصر، يُقصد به الجماعات الإسلامية التي خاضت معترك العمل السياسي، دون جماعات أخرى اختارت العمل في طريق الدعوة أو الانعزال والتعبّد ونشر الدين في المجتمعات الإسلامية بعيدا عن السياسة. ولو أن أحد الذين يعتمدون هذه التقسيمات العجيبة في تعاطيهم مع الإسلام كلّف نفسه عناء الرجوع إلى صفحات التاريخ لأغلق “دكان الدّجل الاستشراقي الذي يديره” ولاختفى عن المسرح وأراحنا من عناء الردّ عليه.

وقد يقول لك قائل: ها هو يستحاق رايتر مثال لمن يقرأ التاريخ ويرجع إليه ويأخذ منه ويعتمد عليه.

وهذا صحيح من الجهة النظرية. ففي كتابه الذي بين أيدينا سياحة طويلة في تاريخ الفتاوي الإسلامية قديمها وحديثها وأحداثها التي صدرت في خضمّها، غير أن هناك فرقًا شاسعا بين مَن يبحث عن الحقيقة لأجل الحقيقة، مجرِّدا نفسه من كلّ هوىً ومن كل غرض خبيث، وبين من يسعى إلى  لَيّ عنق الكلام واجتزاء الحقائق ودس السم في الدسم وتجيير ذلك كلّه لصالح “نظرياته” وخدمةً لأهدافه التي لا تخفى على كل فطِن ذي لُبّ. وهي في المحصّلة أهداف تصب في صالح مشروعه الساعي إلى إثبات روايته وأحقيّتها، وإلغاء رواية الآخر وبطلانها!!

يبدأ رايتر كتابه بمقدمة يشرح فيها منهجية الكتاب الذي يتناول “الفقه الإسلامي الذي يسعى إلى ملاءمة أحكام الشريعة الإسلامية للواقع السياسي المحكوم بالعلاقات الدولية في العصر الحديث، ويخوض بشكل خاص في مواقف الفقهاء وعلماء الشريعة الإسلامية حيال اتفاقيات السلام مع إسرائيل، والتي تتجلّى من خلال بحث الفتاوى الشرعية وتحليلها، ومن خلال الاطّلاع على الكتب الفقهية الّتي تسلّط الضّوء على مواضع الخلافات الفكريّة- الدّينية في المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة”.

ويزعم رايتر أنّ “بحث المصادر الإسلامية والخوض في مجال العلاقات مع العالم غير الإسلامي سبَر أغوار ظواهر يتميّز بها العالم الإسلامي المعاصر، كتطوير الشّريعة وملاءمتها للظّروف السّياسيّة المتغيّرة، ومكانة الشّريعة الإسلاميّة بشكل عام، ومكانة الفتوى فيما يتعلق بمواضيع الساعة بشكل خاص، والاختلاف بين التيارين الفكريّين المركزيّين- الأصولي المتشدّد، والواقعيّ- في آليات التّفسير الّتي يستخدمها كلٌّ منهما، وتعامل العالم الإسلاميّ مع التوتّر القائم بين التّقاليد والحداثة، والعلاقة بين الفتاوى وتفسيراتها الشّرعية من جهة وبين التّحدّيات الإيديولوجية والسّياسيّة والعسكريّة من جهة أخرى”.     ثم يتحدّث رايتر عن استعراضه للتّباين بين طريقة تعامل المُفتين المقرّبين من الحكّام وبين طريقة تعامل المُفتين المستقلّين أو نظرائهم ممّن ينتمون إلى صفوف المعارضين لمواقف أنظمة الحكم في بلادهم. ثمّ يقول إن التمعّن فيما يسميه “الفتاوى السياسية” يفتح نافذة على التباينات في المواقف المختلفة من العلاقات بين العالمين الإسلامي وغير الإسلامي، “لنرى أنّ هذه التباينات تتراوح بين عقيدة الجهاد بمفهومه التقليدي، وبين التّوجّه العلمي الواقعي الذي ينكبّ على ملاءمة تفسير الأحكام الشرعية للعلاقات الدولية الحديث”.

بعد ذلك يتحدث رايتر في مقدمة الكتاب عن الاختلافات في وُجهات نظر المستشرقين الإسرائيليين حيال الطريقة الّتي يجب أن تفسَّر على أساسها الفتاوى الّتي أيّدت السّلام مع إسرائيل، باعتمادهم على سابقة الحديبية… مضيفا أنّ هذا النّقاش (بين الإسرائيليين) يشكّل، إلى حدّ ما، انعكاسا للنّقاش الدّائر في العالم الإسلامي. بل يمكن القول إنّ الدّافع من ورائه يكمن، على ما يبدو، في المواقف الإيديولوجيّة للمفسّرين والمحلّلين أنفسهم، حتّى أنّ رايتر نفسه يعترف أنّه ليس واثقا من أنّه حقّق الموضوعيّة العلميّة في كتابه هذا، وهو اعتراف بأنّ ما يحرّكه هو موقفه الإيديولوجي لا المنهجيّة العلميّة…

ولا بدّ من مجموعة ملاحظات قبل أن نخوض في أهمّ ما جاء في الكتاب:

– يستخدم المؤلف مصطلح “العالم الإسلامي” موهِمًا بأنَّ هناك عالما إسلاميا واحدًا وأنّ هذا العالم الإسلاميّ محكومٌ بالشّريعة الإسلاميّة، بينما المعنى الواقعيّ لهذا المصطلح هو تلك البقعة الجغرافيّة الّتي تقع فيها اليوم الدّول الإسلاميّة؛ عربية وغير عربية. فليس هناك اليوم عالم إسلاميّ واحد يستند في نظام الحكم إلى الشّريعة الإسلاميّة، بل هناك أنظمة عديدة ليس فقط أنّها لا تحكم بالإسلام بل تحارب الإسلام وتستبعده من أجندتها، وإنْ سطَرَت في أول فصول دساتيرها المبنيّة على النظام الغربي أنّ الشريعة الإسلاميّة هي المصدر الأوّل لنظام الحكم. فهذا بند دستوري نظري لا يخرج إلى حيّز التنفيذ إلّا فيما ندر، أو عندما تريد الأنظمة لجم شعوبها بفتاوى تخدم أجندتها وسياساتها.

– يتحدث رايتر عن “تطوير الشّريعة وملاءمتها للظروف السياسية المتغيّرة، ومكانة الشّريعة الإسلامية بشكل عام”. وحقيقة المسألة أنّ ما يحدث من طرف الأنظمة الحاكة في العالم الإسلامي أنّها تعمل ليس على “تطوير الشريعة” بل على  “تطويع الشريعة” بما يخدم مصالح هذه الأنظمة. وهي مصالح ذات ارتباط قوي بمصالح القوى العظمى الّتي تتحكم بالسّياسة الدّولية. ناهيك عن أنّ الأصل في المسألة هو “تطبيق الشّريعة” لا تطويرها ولا تطويعها. فالشريعة- إذا كنتَ تريد الحقّ- هي الأصل وما سواها هو الذي يجب أن يخضع لها، ويطوّر نفسه بحسبها،  ويطوّع ذاته لتتلاءم مع متطلبات هذه الشريعة.

– يؤكد هذا قولُ رايتر إنّ الفقه الإسلامي يسعى إلى ملاءمة أحكام الشّريعة الإسلاميّة للواقع السياسي المحكوم بالعلاقات الدوليّة في العصر الحديث. وهذا من الجهة العملية صحيح. فالفقه الإسلامي الّذي تقرر الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي بدساتير غربية يسعى فعلا إلى ملاءمة أحكام الشّريعة الإسلاميّة للسّياسات الدوليّة المعاصرة. وهنا أساسا تكمن المشكلة. إذ هناك فرقٌ بين النّكوص عن الشريعة الأمّ والرّضوخ للسّياسة الدّوليّة الّتي وضعت أسسها وأدواتها القوى الدولية المهيمنة، وفي مقدّمتها القوى الغربية، وبين اعتبار الشّريعة الإسلاميّة هي المصدر الوحيد للحكم، ومن خلاله التّعاطي مع المتغيّرات على السّاحة الدّوليّة سلما أو حربا.

– يوهم المؤلّف القارئ، أثناء حديثه عن التباين بين طريقة تعامل المُفتين المقربين من الحكام، وبين طريقة تعامل المفتين المستقلين أو نظرائهم ممن ينتمون إلى صفوف المعارضين لمواقف أنظمة الحكم في بلادهم، يوهِمُ بأنّ الأنظمة الحاكمة هي أنظمة تعتمد الشّريعة الإسلامية، لكنَّ لها وجهة نظر شرعيّة ومذهبًا في المسائل والقضايا المختلفة، تختلف عن وجهة نظر ومذهب المستقلّين أو المحسوبين على المعارضة. والمسألة ليست كذلك! فالحكّام الذين يسيطرون على زمام الأمور في دول العالم الإسلامي لا يحكمون بالإسلام، وإنما يسخّرون شريعته- عند الحاجة فقط- لأجل خدمة أنظمتهم الرّاضخة أصلًا لسياسة الأقوياء، هذا دون أن نفكّر حتى مجرد تفكير بالحديث عن تعاطي هذه الأنظمة مع المجتمع الدولي بالنديّة!

– يتطرق المؤلف إلى “المستشرقين الإسرائيليين” في حديثه عن اختلاف وجهات نظرهم حول الطريقة الّتي يجب أن تفسَّر على أساسها الفتاوى الّتي أيّدت السّلام مع إسرائيل. وهنا لا بدّ من وقفة. فموقف الإسلام من نظريات الاستشراق على عمومها معروف منذ بدأ الاستشراق، بل منذ ظهور الشعوبيّة الّتي يمكن القول إنّها البذرة الأولى للاستشراق. فالاستشراق لم يكن همّه البحث العلمي المجرّد في الإسلام بكل مجالاته، وإنما الطّعن فيه باعتباره دينًا اخترعه شخص ادّعى تلقّي الوحي من السّماء اسمه محمد (صلى الله عليه وسلم). وعندما يأتي الحديث عن “المستشرقين الإسرائيليّين” فإن النظرة تكون مزدوجة: استشراقيّة بمفهومها العام، وصهيونية بمفهومها الخاص. فالمستشرق الإسرائيليّ يتخذ من الاستشراق منصّة ينطلق منها لتحقيق أهداف المشروع الصهيوني. وهناك فرق بين مستشرق غربي (فرنسي أو ألماني أو إيطالي أو أمريكي) يبحث في الإسلام ليطعن فيه، وبين مستشرق إسرائيلي لديه، إلى جانب الطعن في الإسلام، هدف أكبر وهو البحث عن شرعيّة (إسلامية) لمشروعه الّذي أقامه على أرض إسلاميّة.

– يشير رايتر إلى “تيارين فكريّين مركزيّين- الأصولي المتشدّد، والواقعيّ- والاختلاف بينهما في آليات التّفسير الّتي يستخدمها كلٌّ منهما”. والحديث عن تيار متشدّد وآخر واقعي هو ماركة غربية استحدثها الاستشراق (ومعه الاستعمار). فما يراه طرفٌ متشدّدًا قد يراه آخرُ متميّعًا متراخيًا، أو كما يسمونه “واقعيا”. فما هو التشدّد وما هي الواقعيّة؟ هناك من يرى “التشدد” قمة الواقعية، وهناك من يسمي الواقعية- وبحقّ- استسلاما ورضوخا لا علاقة له بالواقعية الحقيقية. فهناك فرق بين الاستسلام للواقع الّذي فرضه الطّرف القوي، والعيش في ظلّه على منهج السلامة، وبين التعاطي مع الواقع من خلال سلامة المنهج. وعليه ليس هناك – في واقع الأمر ” تيار أصولي متشدد” وآخر واقعي.؟ بل هناك تيار أصولي أصيل وتيار استسلامي كان طوال الوقت على استعداد للتّضحية بالإسلام، إلى درجة محاربته، من أجل الحفاظ على نفسه أو نظام حكمه أو مصالحه الّتي هي في الغالب تتناقض مع متطلبات الشريعة الإسلامية وتلتقي تماما مع متطلبات “العالم غير الإسلامي”.

 (يتبع)…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى