أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (160) المشهد في غزّة في ظل العدوان الحالي بين ماكنة التضليل و”عنتريات” الاحتلال وبين الحقيقة

حامد اغبارية

 استوعِبْ جيّدا ما ستقرأه الآن، فأنت تتعرض لحملة تضليل كي يكون موقفك سلبيا عاطفيا، غير مبني على وعي وإدراك وحقائق.

بعد الجريمة التي ارتكبها الاحتلال ضد غزة هذا الأسبوع، حيث شاركت 40 طائرة (أربعون طائرة وليس أربع طائرات!!) في عملية اغتيال ثلاثة من القادة العسكريين لحركة الجهاد الإسلامي، وقتلت معهم أربعة أطفال وأربع نساء، في عملية وصفها أهل الاختصاص في المجال العسكري بأنها عملية جبانة، ولا تليق بدولة تزعم أنها قوة قاهرة قادرة لا تستطيع مواجهتها أعتى الجيوش في المنطقة، فإن المشهد الآن يبدو مختلفا عما سبقه من مواجهات وحروب كانت غزة في مركزها، كما هي الآن أيضا.

بعد دقائق من العملية تطايرت الأسئلة التقليدية: هل سترد حركة الجهاد؟ ومتى سترد؟ وما شكل الرد؟ وهل ستشارك حماس في الرد؟ وهل سينجح الاحتلال في تحييد حماس والاستفراد بالجهاد؟ ولماذا لا ترد حماس فورا؟ وكيف لم ترد الجهاد حتى الآن؟ وعشرات الأسئلة المشابهة التي أسهم إعلام الاحتلال الإسرائيلي في زرعها في الأذهان تضليلا وبلبلة وتلبيسا للأمور، ليخلق حالة من النقمة والغضب الشعبي على الفصائل الفلسطينية في غزة “التي لم تستطع الانتقام لشهدائها” كما يردد ذلك الإعلام، الذي يعتبر من أهمّ وأخطر الكتائب العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي.

لذلك إذا كنت من الذين يقعون عادة في فخّ الأسئلة المفخخة والمضلّلة والمشككة فأنت تعاني من مشكلة ضعف المناعة الإدراكية والمعلوماتية، ومشكلتك الأكبر أنك لم تنجح حتى الآن في استيعاب تفاصيل مشهد المواجهة بين غزة وبين الاحلال، ولا حقيقة ميزان القوى، ناهيك عن أنه ليس عندك الحد الأدنى من الخبرة في مجال القضايا الأمنية والعسكرية.

إن ما يحدث الآن بعد العملية الغادرة في غزة هو ردّ. أو بتعبير أدق هو – في رأيي المتواضع- جزء من الرد. فعدم الرد (العسكري) الفوري هو أيضا نوع من أنواع الرد. وقادة الاحتلال السياسيون والعسكريون والأمنيون يعرفون هذا جيدا. لذلك فإن سلاح “حرق الأعصاب” الذي بدأت فصائل المقاومة تستخدمه بعد دقائق من تلك العملية هو جزء من الردّ. وقد بدأ هذا “السلاح” يؤتي ثماره مباشرة، إذ ادخل قيادات الاحتلال في حالة من الارتباك الشديد وعدم وضوح الرؤية والترقب والتوجس بشكل غير مسبوق. وهذا يبدو واضحا على صفحات وجوههم، وعلى شاشات إعلامهم وبين سطور تحليلات كتيبة “خبرائهم ومحلليهم” التي ثبت فشلها في كل مرة…!

لقد فاجأت فصائل المقاومة في هذه الجولة قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين والاستراتيجيين، من خلال إحداث هذا الفراغ الضابي حول ما سيكون وما سيحدث. وهو مشهد لم يحدث قبل ذلك في المواجهات السابقة.

يبدو لي أن فصائل المقاومة الفلسطينية اختارت هذه المرة أسلوبا مختلفا في التعاطي مع جرائم الاحتلال، وأنه ربما تكون لديها خطة للتعاطي مع المشهد تختلف كليا عما سبقها، وفي مركز هذه الخطة وضع الاحتلال في حالة من التحفز الدائم الذي “يفرم” الأعصاب لأطول مدة ممكنة، مع عدم منحه فرصة لالتقاط الأنفاس، أو محاولة التعرف على أسلوب الرد وحجمه وشكله وكيفيته ومكانه أو أماكنه ومن سيشارك فيه… وليس أصعب على القائد العسكري من فشله في الحصول على معلومة عن تحركات العدو وخططه ونواياه يستفيد منها في تحركاته على الجبهة. وفي المشهد الحالي فقد نجحت فصائل المقاومة في إدخال الاحتلال في حالة من “الحيص بيص”، أربكت حساباته وأضعفت قدرته على تقدير الموقف أمنيا وسياسيا بشكل صائب، وأدخلته في موقف لا يحسد عليه أمام جمهوره، خاصة سكان الجنوب أو ما يعرف باسم “غلاف غزة” الذين يعيشون حالة من الرعب غير مسبوقة. وهي حالة لا يستطيع الاحتلال تحمل تبعاتها لفترة طويلة.

منذ أن أصبح قطاع غزة تحت سيطرة حركة حماس، حين اضطرت إلى حسم الأمور عام 2007 بسبب المؤامرة على المشروع الإسلامي، نجح الاحتلال، من خلال ماكنته الإعلامية الضخمة في تصوير المواجهة مع غزة على أنها مواجهة بين دولتين أو كيانين. وقد انطلى هذا على الكثيرين وتعاطوْا معه على أنه حقيقة، ولذلك تجدهم يسألون تلك الأسئلة التضليلية التي لا تعكس الواقع ولا تلامسه. فغزة ليست دولة، بل هي بقعة جغرافية ضيقة جدا يسكن فيها مليونان ونصف مليون فلسطيني، في أكثر منطقة فيها كثافة سكانية في العالم. وغزة فيها فصائل فلسطينية تتقدمها حركة حماس اختارت المقاومة المسلحة لتغيير الواقع الفلسطيني. غزة تعاني منذ أكثر من 15 سنة لحصار تجويعي يشارك فيه ليس الاحتلال فقط، بل العالم من جهاته الأربع، بما فيه أنظمة العار العربية، في مشهد يمكنك أن تسميه ” أكبر مؤامرة يشارك فيها رقم قياسي من دول العالم، في رقم قياسي من سنوات الحصار ضد رقم قياسي في الصبر وإبداع الحياة في رقم قياسي من سوء الظروف الحياتية”.

غزة ليست دولة، وليس لديها جيش، ولا اقتصاد ولا حتى بنية تحتية سليمة، فلا تسأل الأسئلة التي يريدون منك أن تسألها، بل تأمل المشهد جيدا وحاول استيعابه.

ذات يوم دار نقاش بيني وبين شاب من الضفة الغربية المحتلة عام 1967، فهمت من مضمون حديثه أنه أقرب إلى حركة “فتح”. وقد دار النقاش حول غزة وما يجري فيها، وحول حماس وسياساتها هناك. ومما قاله إن حماس تجوّع أهل غزة وتأخذ أموال الدعم لنفسها ولجماعتها….

هو ذات التضليل وتشويه الذي يردده الاحتلال. ولكن ليس الاحتلال فقط هو الذي يقول هذا، بل سلطة رام الله ومِن خلفها أو قبلها دول العالم “المتحضر”!!

نسي ذلك الشاب، الذي لم أشك للحظة أنه يحب وطنه ويريد له الحرية، لكنه مضلَّل مثل كثيرين، بعد أن استقر في نفسه أن غزة دولة كبيرة تحكمها حماس، التي “تجوّع الناس وتأخذ أموال الدعم لنفسها ولجماعتها”!! أن غزة محاصرة، وأن الذي يحاصرها هو الاحتلال، وتسانده كل الدنيا، وأن هؤلاء جميعا هم الذين يجوّعون أهل غزة ويسرقون خيرات وطنهم، ويغلقون أمامهم كل سبل العيش الكريم، ثم يحاولون إقناعهم بأن فصائل المقاومة وفي مقدمتها حماس هي السبب في سوء أوضاعهم.

سألت الشاب: لو افترضنا أن ما تقوله ويقولونه صحيح، وهو ليس كذلك، وأن حماس تأخذ أموال الدعم لنفسها ولجماعتها، فهل هذه جريمة؟

قال: نعم… بالتأكيد. فهي المسؤولة هناك! هذا واجبها!

فسألته: لو أنك دُعيت إلى حفل زفاف، وجاء موعد مغادرة البيت لتشارك في ذلك الحفل، ولكن فجأة انفجرت أنابيب الماء في بيتك وأغرقته، أو اشتعل حريق في البيت، فماذا تفعل؟ هل تذهب إلى حفل الزفاف أم تترك كل شيء لتحمي بيتك من الغرق في المياه أو من الحريق؟

جوابه كان واضحا… لكنه لم يستوعب الرسالة منه، لأن حجم التضليل الذي نتعرض له كبير. لكنني شرحت له المقصد بعد ذلك.. قال: طبعا أعمل على إصلاح مصدر الخلل في البيت لأنقذ بيتي وأثاثه ومحتوياته من الغرق أو من الحريق؛ المجنون فقط هو الذي يترك بيته يغرق أو يحترق ويذهب إلى حفل زفاف!

بعد ذلك استوعب الشاب أن حجم الافتراءات والأضاليل والتهم بسرقة الأموال كبير، وأنها جزء من المعركة.

حقيقة المسألة، التي أراها كمراقب يحاول فهم الحقيقة من كل جوانبها، أن الدنيا كلها مسؤولة عن حصار غزة وتجويع أهلها، وأن الذين يديرون شؤون غزة اليوم يسيرون في حقل ألغام بينما يحاولون، بكل ما أوتوا من طاقات وإمكانيات ووسائل، الحفاظ على المعادلة الذهبية: استمرار القدرة على مواجهة جرائم الاحتلال، وتوفير العيش الكريم لسكان غزة في ظل جريمة دولية تستهدف غزة تحديدا. هذا الكلام يعرفه الاحتلال وتعرفه سلطة رام الله وتعرفه الدنيا كلها.

لست خبيرا عسكريا، ولست في غزة، التي هي أدرى بما يدور هنا وهناك. ولكن حتى لو لم يأت الرد كما حدث فعلا، وحتى لو لم يكن ذلك الرد على قدر توقعات الأبطال الفيسبوكيين، فليس من حق المرفَّهين الذي أشبعوا بطونهم وغرورهم، ولا من حق أحد أن يلوم غزة وأهلها ومَن فيها، بل اللوم كل اللوم والحق كل الحق على الذين يرتكبون تلك الجريمة الكبرى المسماة حصار غزة وما يتبعها من جرائم يرتكبها الاحتلال بين حين وآخر، والذي يزرع الموت والدمار في الضفة الغربية على مدار الساعة.

سوريا دولة ولها جيش ويقال إنها مستقلة وتملك قرارها السياسي، ولها جيش جرار يحارب (شعبه) منذ 12 سنة؛ يقصفها الاحتلال بصورة شبه يومية، ولكنها لا ترد، وما تزال تحتفظ بهذا الحق منذ تسليم الجولان عام 67، ومع ذلك يجد لها المتفلسفون كل المبررات.

وإيران دولة شبه نووية، ويقال إنها دولة مستقلة، وتملك قرارها السياسي، ولها جيش جرار يحارب في سوريا واليمن ولبنان، يقتحم الاحتلال خِدرها صباح مساء ويغتال علماءها ويسرق أسرارها، وما تزال تحتفظ بحق الرد منذ 40 سنة، ومع ذلك يجد لها المبطلون كل المبررات.

وسلطة رام الله يمرّغ الاحتلال أنفها كل يوم، رغم أن العالم كله “يقف” معها ويعترف بها، ومع ذلك يجد لها “المزعبرون” ألف مبرر؛ أقلُّها: وماذا يمكنها أن تفعل المسكينة؟!! إنها تحت الاحتلال!!

أما غزة – عند هؤلاء “الخبراء”- فهي ملزمة بالرد الفوري، وإلا فهي ترتكب خطيئة كبرى…. وكأن غزة ليست تحت حصار واحتلال!!

ملاحظة: كتب هذا المقال صباح أول من أمس الأربعاء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى