أخبار رئيسيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

مواقف مؤثرة ومشاهد محرجة في القرآن الكريم

الشيخ كمال خطيب

 لو أن كل واحد منا قلّب صفحات أيامه وسنوات عمره لوقف على كثير من المواقف التي لا تنسى وتظلّ محفورة في الذاكرة، لأنها لم تكن مواقف عادية وعابرة وإنما كان لها بصمة في حياة الإنسان. ولأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد اختصهم الله تعالى من بين البشر، وقد هيأهم لحمل الرسالات فكانت كل أعمارهم حدثًا استثنائيًا مميزًا في حياة البشرية، ومع ذلك فإن من يقلّب صفحات تلك القامات السامقة المباركة، فإنه سيجد أحداثًا ووقائع ليست كغيرها. ولأن الأنبياء والرسل الكرام هم أشرف وأكرم الخلق على الله سبحانه، فإنه قد خلّد ذكرهم في كتابه الخالد القرآن الكريم، والذي بين صفحاته سنجد تلك الوقائع والأحداث المميزة والمؤثرة.

 

{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}

فليس أنه كان ولدًا من بين أولاد كثيرين، وإنما كان ولدًا وحيدًا جاء وقد بلغ أبوه من الكبر عتيًا، وكانت أمه عقيمًا لا تلد فكان ميلاده بحد ذاته معجزة. إنه إسماعيل وإنه الوالد إبراهيم عليهما السلام.

إن عاطفة الأبوة نحو الأبناء لا يستطيع فهم عمقها وقوتها والانجذاب إليها إلا الآباء أنفسهم. إنه الأب يرضى لنفسه أن يجوع ليشبع ابنه، وأن يعطش ليشرب ابنه، وأن يسهر لينام ابنه. إنه الأب يتعرض للفناء ليضمن لابنه البقاء، ولكن خليل الله إبراهيم عليه السلام وحينما يكون الأمر إلٰهيا ،فإن كل نواميس الفطرة تتبدل لنجد أن أقوى من حب الوالد لولده تصبح طاعة العبد لمعبوده والمخلوق لخالقه. إننا نرى ذلك في أجلى صورة فيما دار من حوار بين الخليل وبين إسماعيل، ولم يبق حوارًا وإنما أصبح فعلًا {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} آية 102-105 سورة الصافات.

إنه سكين الذبح وليس غيره ومع ذلك فإبراهيم الوالد يستجيب لوحي ربه، وإسماعيل الولد يستجيب لأمر والده ، وبذلك استحق إبراهيم أن يقول الله عز وجل عنه : {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} آية 19 سورة الصافات، وأن يقول عن إسماعيل: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} آية 155 سورة مريم.

 

{يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا}

إذا كان إبراهيم عليه السلام يخاطب ابنه المؤمن فاستجاب وأطاع، فإن نوح عليه السلام قد خاطب ابنه العاصي فاستكبر وعصى، وقد سطر الله ذلك في كتابه العزيز لما قال: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِين َقَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} آية 42-46 سورة هود. إنها فطرة الأبوة في نوح عليه السلام وعاطفتها قامت لتصرخ وهي ترى الموج كالجبال وابنه يكاد يغرق فيها، وهو الذي سبق وناداه “يا بني اركب معنا”، ورغم أن جواب ابنه كان الرفض للحاق بركب الإيمان وسفينة النجاة، إلا أن نبي الله نوح عليه السلام، راح ينادي ربه: “إن ابني من أهلي”، ولم يتوقف نوح عليه السلام إلا عندما قال له ربه :{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} آية 46 سورة هود.

وكم كان أدب نوح عليه السلام مع ربه وخجله منه وقد تغلّبت عليه فطرة وعاطفة الأبوة، فكان منه ذلك الاعتذار :{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} آية 47 سورة هود. لم تكن فاجعة نوح في ابنه فحسب ، وإنما سبق وفجع في زوجته التي اختارت لها طريقًا غير طريق الإيمان الذي دعا زوجها نوح الناس إليه {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} آية 10 سورة التحريم، لكنه طريق الإيمان والتوحيد جعل امرأة نوح تختار طريق الكفر خلافًا لزوجها النبي، بينما اختارت امرأة فرعون طريق الإيمان خلافًا لزوجها الكافر الذي قال: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ} الآية 24 سورة النازعات.

 

{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}

إنه الموقف المؤثر والمحزن ليس بين نبي وابنه كما في قصة نوح وابنه، وإنما بين نبي وأخيه، إنهما موسى وهارون عليهما السلام. إنه موسى وقد أوصى أخاه هارون بقومه بني إسرائيل بينما ذهب هو يتلقى الألواح من ربه سبحانه، فانقلب بنو إسرائيل عليه وكان موسى قد ترك قومه يعبدون الله ورجع إليهم وهم يعبدون العجل فصبّ جامّ غضبه على أخيه ظانًا أنه قد قصّر في هدايتهم.

إنه ذلك المشهد الحزين قد وصفه القرآن: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} آية 92-94 سورة طه. وفي موضع آخر قال سبحانه: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} آية 150 سورة الأعراف. إنه موسى عليه السلام الذي لمّا اطمأن أن أخاه هارون لم يقصّر في هداية قومه وتذكيرهم بالله {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} آية 90 سورة طه، عندها استغفر موسى لأخيه ولنفسه :{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} آية151 سورة الأعراف. قال النبي ﷺ: “يرحم الله أخي موسى ليس المُعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا فلم يلق الألواح فلمّا رآهم ألقى الألواح”.

وقد روي أنه ورد في تلك الألواح قول موسى: “رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم، وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرًا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا منها شيئًا، وأن الله أعطاهم من الحفظ ما لم يعط أحدًا من الأمم، اللهم اجعلهم أمتي. فقال له الله تعالى: إنهم أمة أحمد ﷺ. قال موسى: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول والأخير ويقاتلون وصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب اللهم اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد ﷺ. قال موسى: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد ﷺ. قال موسى: رب إني وجدت في الألواح أمة هم المشفوعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي، قال الله: هم أمة أحمد، فقال موسى عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة أحمد”.

 

{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}

إنه موقف النبل والشهامة والعفو عند المقدرة تجلّى في أخلاق النبي الكريم يوسف عليه السلام مع إخوته الذين آذوه وكادوا له، وقد ألقوه في غيابة الجب، وهم الذين وصفوه باللص وقالوا عنه: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} آية 77 سورة يوسف. ودارت الأيام وجاؤوا مصر ليشتروا طعامًا لأهلهم وراحوا يتوسلون ويتوددون إليه دون أن يعرفوه: {قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَٰعَةٍۢ مُّزْجَاةٍۢ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِى ٱلْمُتَصَدِّقِينَ} آية 88 سورة يوسف، وما أن عرفهم بنفسه وعرفوه {قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِى} آية 90 سورة يوسف، لم يكن منه التلويم ولا العتاب فليست هذه صفاته ولا الموقف يحتمل سوى العفو والمسامحة {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} آية 92 سورة يوسف. إنه الكريم الذي إذا قدر عفا، وإنها أخلاق يوسف هي أخلاق أخيه محمد ﷺ “صل من قطعك واعف عمّن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك”.

 

{أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}

إنهم قوم لوط قد فسدت فطرتهم وانتكست، ومالوا إلى الشذوذ والانحراف وقد فشت فيهم آفة معاشرة الرجال بعضهم لبعض من دون النساء كما هي الفطرة السليمة. لم يستجب هؤلاء لنداء محب ناصح لهم هو من خيارهم، إنه لوط عليه السلام، بينما هو يذكرهم ببشاعة فعلتهم، حتى كان اليوم الذي أرسل الله إلى لوط ملائكة مكرمين على هيئة رجال صباح الوجوه وكانت الطعنة للوط من زوجته التي أشاعت بين قومها عن أولئك الضيوف عند زوجها ،فأحاطوا بالبيت من كل جانب وقد دارت فيهم غريزة الفاحشة المنكرة كما تدور الخمرة برأس شاربها.

أرادوا الاعتداء على ضيوف لوط بينما هو واقف على باب البيت يحاول صدهم ومنعهم من الدخول والاعتداء على ضيوفه، وقد سطر القرآن الكريم ذلك المشهد المريب وموقف لوط المحرج لما قال سبحانه :{وَجَآءَهُۥ قَوْمُهُۥ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ ۚ قَالَ يَٰقَوْمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِىٓ ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} آية 78 سورة هود. كل هذا الاستجداء وهذا العرض منه لهم أن يتزوجوا بناته ليقضوا وطرهم ويشبعوا غرائزهم الحيوانية وإذ بالضيوف الملائكة يقولون له :{قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍۢ مِّنَ ٱلَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا ٱمْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍۢ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} آية 81 – 83 سورة هود.

 

{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}

لم أجد موقفًا أكثر حرجًا من موقف لوط يدافع عن عرض ضيوفه إلا موقف مريم عليها السلام تريد أن تدافع عن عرضها خوفًا من الفضيحة ومن ألسنة بني إسرائيل الطويلة وضمائرهم الميتة. إنها الفتاة التقية من بيت الطهر والإيمان تجد نفسها وقد حملت جنينًا في بطنها من غير أن تكون قد تزوجت، فكيف ومن أين سيصدق فاسقو بني إسرائيل أنها لم تقع في الفاحشة {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا} آية 22-23 سورة مريم، لم يعد هو حمل في الأحشاء بل إنه قد ولد وأصبح في حضنها وليس في بطنها {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} آية 27-30 سورة مريم.

نعم إنه الموقف المحرج الذي لم يخلّصها منه إلا الذي كل الأمر بيده، إنه الله سبحانه، ولذلك كان دعاء النبي ﷺ ومن بعده الصالحون من المسلمين: “اللهم استرنا بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك، اللهم لا تفضحنا بين خلقك”. وقولهم: “يا من سترت فيما مضى، استرني فيما بقي ولا تفضحني يوم الحساب”. السلام عليك يا مريم السلام، عليك يا أمنا يا أم المسيح يا رمز الطهر والعفاف.

 

{إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}

أي حرج أعظم من أن يعتقد الإنسان اعتقادًا ثم يتبين له أنه كان اعتقادًا خاطئًا لا بل فاسدًا. فهذا حال أتباع الديانة المسيحية ومنذ ألفي سنة فإنهم على اعتقاد أن المسيح هو ابن الله وأنه صلب على يد الرومان بفعل وشاية اليهود به. ويعظم هذا الحرج يوم يقف المسيح عليه السلام وأمته بين يدي الله سبحانه ليكون السؤال الذي يكشف حقيقة الاعتقاد الفاسد وعندها يكون الندم، ولكن لات حين ندامة. وقد سطر الله تعالى ذلك المشهد المحرج في كتابه الخالد لمّا قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آية 16-18 سورة المائدة.

إن بابا الفاتيكان قد أصدر قرارًا فيه يبرئ اليهود من قتل المسيح وصلبه وبذلك فقد نسف عقيدة عمرها ألفا سنة، فكيف سيكون حالهم يوم ينسف المسيح عليه السلام بنفسه وينفي أنه ابن الله كما اعتقدوا.

 

{وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}

ومثل حرج أتباع المسيح عليه السلام يوم القيامة وبين يدي الله سبحانه وبين يدي عيسى عليه السلام، فإنه حرج أتباع محمد ﷺ يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وفي حضرة رسول الله ﷺ. أي حرج أعظم من أن ينادي ﷺ ربه بعد إذ يُطرد أقوام من أمته عن حوضه فيقول أمتي أمتي ليكون الجواب: إنك لا تدري ما فعلوا بعدك، فيقول ﷺ بحزن وأسى سحقًا سحقًا أي بعدًا بعدًا.

وأي حرج أعظم بل إنه الحرج الذي يصل إلى حد أن يتمنى أقوام أن تنشق الأرض وتبتلعهم حرجًا وحياء من رسول الله ﷺ، وهم الذين كانوا من أمته وعصوه أو كانوا من أمم أخرى ولم يتبعوه {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا*يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} آية 41-42 سورة النساء. بل إنه الحرج الذي يبلغ ذروته يوم يشكو الرسول أناسًا من أمته إلى ربه سبحانه لأنهم كانوا في الدنيا قد هجروا قرآنه الذي أنزله ربه سبحانه {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} آية 30 سورة الفرقان.

ما أعظم ما كان يقوله وما يدعو به المرحوم محمد إقبال فيلسوف الإسلام الكبير: “اللهم إن كنت محاسبي يوم القيامة فحاسبني بنجوة من حبيبي محمد ﷺ لأني أستحي أن أكون من أمته وأعصيه.

يا بارئ الكون في عز وتمكين    وكل أمر جرى بالكاف والنون

يا من لطفت بحالي قبل تكويني   لا تجعل النار يوم الحشر تكويني

يا رب إن ذنوبي في الورى   عظمت وليس لي عمل في الحشر ينجيني

لقد أتيتك بالتوحيد يصحبه     حب النبي وذاك القدر يكفيني

 

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا…

 

رحم الله قارئًا دعا لي ولنفسه ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى