أخبار رئيسيةمقالاتومضات

الداخل الفلسطيني الراهن، التــحديات والمستقبل (4)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

المقدمة الرابعة

لا يمكننا تقديم تحليل صحيح أو مقارب إلى الدقة للحال التي آلت إليها القضية الفلسطينية عموما وحالتنا في الداخل الفلسطيني تحديدًا، من دون فهم عميق وتفكيك للمكونين الفلسطيني منذ ظهور الفكرة القومية وقبلها فكرة الجامعة الإسلامية والتحولات التي جرت في الدولة العثمانية، متعلقًا بالشام عمومًا وفلسطين منذ عهد محمود الثاني ومحمد عبده والى هذه اللحظات. وكذلك المكون الصهيوني منذ لحظاته التأسيسية والى هذه اللحظات، بما في ذلك مراحل “الييشوف “والتهيئة لقيام إسرائيل ومن ثم قيام إسرائيل، أولًا بسبب أنّ التاريخ جزء أساس من فهمنا للراهن الذي نعيش ويؤسس لرؤية مستقبلية تكون اكثر صوابية بحكم التتبع التاريخي ومواقع الصواب والخطأ الذي وقعت فيه القيادات التي قادت أو رافقت تلكم المرحلة التاريخية، وكنّا قد أشرنا من قبل إلى الثوابت الناظمة صهيونيا لإسرائيل التي وضعها بن غوريون بناء على هدي من المسيرة والتنظيرات الصهيونية للقادة منهم.

لقد نظّرت قادة الحركة الصهيونية ابتداء من مؤسسها وإلى هذه اللحظات، عبر قياداتها العالمية أو الحاكمة في إسرائيل إلى أنّ الفلسطيني جماعة وفردا، غير مرئي ومستنكر وجوده على ارض الآباء والاجداد ذات الوعد الإلهي، وسعت الحركة الصهيونية ومن دار في فلكها من الأقلام المأجورة ممن يسمون باحثين وأكاديميين من غير اليهود والصهاينة أو من أكاديميين إسرائيليين إلى تثبيت الحق اليهودي وأنّ الفلسطينيين هربوا وشردوا من البلاد إبان ما سمي حرب عام 1948، ومن نافلة القول الإشارة إلى عدد من هؤلاء المؤرخين والباحثين الإسرائيليين ممن خدموا الرواية الصهيونية بكل زيفها، أمثال، اناتا شابيرا ويوئاف جيلبر.

ما قدّمه المستشرقون الإسرائيليون والمؤرخون فضلًا عن جيش من امثالهم من الأوروبيين والامريكيين جعلوا زيفهم حقيقة صدّقها عديد السياسيين من الأوروبيين ومن “المتأوربين” و”المتأمركين” العرب، وقد شكلت هذه القناعات المتناقضة مع الحقيقة والرواية الفلسطينية والعربية وسرديات التاريخ المُعاصر لأحداث القضية الفلسطينية.

عمليًا شرعت القضية الفلسطينية بالظهور مع ظهور المسألة اليهودية وتحولاتها التي شهدتها أوروبا في تلكم السنين، وشكّلت محاولات نابليون احتلال البلاد واحتلال إبراهيم باشا ابن محمد علي للبلاد ومحاربته الدولة العثمانية ودخول الأوروبيين على الخط مباشرةً، الأساس العملي لبدايات حقيقية للمسألة الفلسطينية وإن تسربلت بلباس العثمنة حتى نهايات الدولة العثمانية.

ينظر العديد من المنظّرين الصهاينة إلى أنهم أمام نهايات الصيرورات التاريخية التي بدأت منذ عهد نابليون وتشكل هذه اللحظات من تاريخ إسرائيل أواخر حلقات المشروع الصهيوني المتجلي في تمددها الخارجي وتطبيع العلاقات مع محيطها العربي، على أنه الخطوة الأخيرة في المشروع الصهيوني الذي بدأ به هرتسل، واكمله عمليًا بن غوريون، وترعاه واشنطن منذ اللحظات الأولى للدولة، وتمظهر واضحا في عهد الرئيس كارتر مرورا بكلنتون وترامب وحاليًا بايدن.

وتهدف هذه المحاولات الامريكية التي هي في جوهرها سلسلة من ضمن السياسات الرامية لقبول إسرائيل كجزء من المنطقة الآخذة بالتغيُر القسري عبر مجموعات جيلية جديدة حاكمة تحصلت على التعليم والتربية في الغرب، وهذه المجموعة الحاكمة متفهمة للوجود الإسرائيلي بشكل أراح الغرب سواء تعاطينا مع كلمة الغرب سياسيًا أو حضاريًا أو ثقافيًا وهذه المجموعة تعمل بكثافة عالية لإحلال تغييرات في المناخين العربي والإسلامي (انظر على سبيل المثال لا الحصر التحولات الجارية في منظمة التعاون الإسلامي في العلاقة مع إسرائيل والغرب). وإسرائيل إذ تتنبه الى هذه التحولات الجارية في منطقتنا عمومًا عينها على فلسطين، على القطاع والقدس والضفة الغربية كما أنّ عينها على الداخل الفلسطيني.

تكشف إجابات هرتسل على الرسالة التي أرسلها إليه يوسف ضياء الخالدي حول نوايا الحركة الصهيونية الاستيطان في فلسطين وتهجير سكانها قسرًا ورهبًا معترفا بحق اليهود في حياة كريمة، في الوقت ذاته محذرًا من الاعتداء على فلسطين وساكنتها راجيًا إياه ان يصرف النظر عن فلسطين حجم التعالي الاستعماري على الانسان الفلسطيني والعربي أو لنقل المشرقي وهو تعالٍ تبينت معالمه ابان فترة الييشوف وبعد قيام إسرائيل.

يوسف ضياء الخالدي كان عقلية مفتوحة ويبدو أنّه برسم ثقافته الموسوعية واطلاعه على الحراك الصهيوني منذ لحظاته الأولى سواء الذي كان في روسيا القيصرية أو الإمبراطورية النمساوية، استشعر مبكرا الخطر الصهيوني على فلسطين وشعبها (حول هذا الموضوع انظر إلى وليد الخالدي في “من اللجوء الى الاحتلال: قراءة في الصهيونية وقضية فلسطين- بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية،1971) وحجم الاستعلاء الصهيوني الاستعماري الذي استبطن عقلا استعماريا يهدف إلى تجريف فلسطين من السكان وتهجيرهم وتحقيق حالة متقدمة من الهندسة الجغرافية-السكانية، تبين فيما بعد الحرب العالمية الأولى الدور البريطاني في تحقيق هذه الأهداف التي توافقت بالكامل مع وعد بلفور.

ويتبين من ردّ هرتسل على رسالة الخالدي أخذه بعين الاعتبار استحالة التطهير العرقي الكامل، علما أنّ الاحتلال البريطاني بين سنوات 1936   و1939 قتل 10% من الذكور البالغين من أبناء الشعب الفلسطيني وفقا للمعطيات التي قدمها الخالدي في كتابه حرب المئة عام على فلسطين (ص21)، وتمّ طرد اكثر من نصف السكان عام 1948 ضمن سياسات استعمارية مدعومة من المنظومة الانجلو سكسونية ذات الخلفية الانجيلية البروتستانتية، والحركة الصهيونية إذ أبقت من تبقى داخل حدودها، فإنما جاء ضمن سياسات داخل الحركة الصهيونية وقيادات الييشوف والدولة الوليدة التي ما زالت تحت رعاية منشئها أي الحركة الصهيونية واحتاجت ولا تزال الى العمالة السوداء، باعتبار أنّ المُستعمر يحتاج دائما الى المستعمَر لتبرير وتعميق وتكثيف وجوده، ولذلك فقد كانت من مهمات هذه المجموعة المتبقية التي فقدت كافة مبررات بقائها صهيونيًا المشاركة في بناء الدولة الناشئة على حساب وجودهم وارضهم، وهذا وإن كان من ضمن المفارقات التي لا تزال تحتاج الى بحث معمق وهادئ يحاجج تلكم السنوات الُمؤسِسَةُ للوجودين الإسرائيلي والفلسطيني، ولبيان دور الحزب الشيوعي بما له وما عليه الذي عمل على القبول بالهزيمة وقيام إسرائيل مقابل البقاء تحت سؤال المواطنة وتداعياته السياسية، ولاحقا طرحت قضية الهوية ضمن الصراع الذي شهده العالم الثالث في مواجهة الاستعمار في خمسينات وستينات القرن الماضي ضمن ما عُرِف تاريخيا بالتأثيرين الاشتراكي والقومي على تلكم الشعوب، ولم يكن الشعب الفلسطيني بمعزلٍ عن تلكم التحولات كما لم يكن الداخل الفلسطيني بمعزل كذلك.

لم تحدث حتى هذه اللحظات على حد علمي قراءة عملياتية- وقد أكون مخطئًا- للأفكار التي سطّرت المشهد الفلسطيني في مراحل ما قبل النكبة وما تلاها من قيام لإسرائيل ووجود اقلية خضعت للحكم العسكري، وكيف أثّرت هذه الأفكار على مجمل الحياة السياسية ومساراتها ودروبها، وكيف تداخلت مع الاستعمار الصهيوني بمركبه الإسرائيلي والسياسات التي عملت على تحقيقها، وما هو الدور الذي لعبته تلكم الأفكار بتحقيق تلكم السياسات وخضوع البقية الفلسطينية في تلكم المرحلة التاريخية لهذه السياسات، ومعاني مواجهتها، وهل فعلًا تمّ ذلك أم أنّ الإقرار على سبيل المثال لا الحصر بالهزيمة عام 1948 والتعاطي معها كقدر لا يتغير، دفع لاحقا أن تكون من الأطر الناظمة والتأسيسية للتحديات التي تعيشها هذه المجموعة من الفلسطينيين والتي تنامت بشريًا دون ان تستفيد فعليًا من ناظم سياسي لها كلجنة المتابعة، كان بالإمكان أن تكون وعاءً سياسيًا جامعًا للكل السياسي الذي يبدو أنّ خلافاته الأيديولوجية والمصلحية وسياساته العملياتية من الصعوبة تجسيرها سعيًا للمشترك، باعتبار أنّ الإسقاطات الإسرائيلية التاريخية حاضرة وبقوة في هذا السياق. وبذلك تكون المسيرة التاريخية للداخل الفلسطيني، سياسيًا وما يتناسل عنها من تداعيات ومعان مجتمعية واجتماعية وثقافية، من بينات تلكم التحديات التي برؤيتها التاريخية وتفكيكها علميًا وعملياتيًا تؤسس لقراءات مستقبلية ورسم لحاضرنا ومستقبلنا.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى