أخبار رئيسيةمقالاتومضات

نفحات قرآنية: ولدَت لسبعة أشهر وحفِظت القرآن لسبع سنين

الشيخ كمال خطيب

القرآن ورمضان حياة الروح وروح الحياة، فلا أجمل ولا أعذب من هذا الاقتران ليس على اللسان وإنما على القلب والوجدان. وإذا كان رمضان كما قال النبي ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليله القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”، فإن القرآن كما يقول ابن الجوزي رحمه الله: “تلاوة القرآن تعمل في أمراض الفؤاد ما يعمله العسل في علل الأجساد”.

ها نحن في شهر رمضان، شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} آية 185 سورة البقرة، ها نحن وقد تعبت أرواحنا وأنهكتها ضغوطات الحياة بل ولعلّها انتابتها كثير من الأمراض والأسقام من الذنوب وحب الدنيا وقسوة القلب، وإذا بالقرآن ورمضان يعيدان إلى الروح الحياة وللحياة الروح، فالحمد لله على نعمة القرآن والحمد لله على نعمة رمضان.

اجعل القرآن في الدنيا صديقك ليكون في الآخرة شفيعك

يقول الدكتور مجدي الهلالي في كتابه الرائع -العودة إلى القرآن-: “كلما اقترب المسلم من القرآن وتوافقت علاقته به فسيجد أنه قد أصبحت له علاقة خاصة بسور القرآن، فهو ينتظر الوصول إلى سوره الأنعام لتزيده حبًا بالله، ويتلهف لقراءة الأنفال ليزداد شعوره بالعزة، ويشتاق لسورة يوسف لتكون له نعم السلوى”. ويقول الاستاذ سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن: “هكذا عدت أتصور سور القرآن، وهكذا عدت أحسها، وهكذا عدت أتعامل معها، بعد طول الصحبة، وطول الألفة، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته، وملامحه وسماته! وأنا أجد في سور القرآن – تبعًا لهذا- وفرة بسبب تنوع النماذج، وأنسًا بسبب التعامل الشخصي الوثيق، ومتاعًا بسبب اختلاف الملامح والطباع، والاتجاهات والمطالع!

إنها أصدقاء، كلها صديق، وكلها أليف، وكلها حبيب، وكلها ممتع، وكلها يجد القلب عنده ألوانًا من الاهتمامات طريفة، وألوانًا من المتاع جديدة ، وألوانًا من الإيقاعات، وألوانًا من المؤثرات، تجعل لها مذاقًا خاصًا، وجوًا منفردًا” .

وصداقة القرآن للعبد بعد طول الصحبة لا تقتصر على حياته الدنيوية فقط، بل تتعداها إلى حياة البرزخ، فيكون القرآن أنيسًا له في قبره أيضًا. روى الترمذي عن ابن عباس فقال: “ضرب رجل من أصحاب رسول الله ﷺ خباءة على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها؟ فقال رسول الله ﷺ: هي المانعة هي المنجية من عذاب القبر”.

أما يوم القيامة فللقرآن دور آخر، إنه لمن اتخذه في الدنيا صديقًا فإنه سيكون له يوم القيامة شفيعًا عند ربه ويرتقي به في درجات الجنة، فعن أبي أمامه الباهلي قال: “سمعت رسول الله ﷺ يقول: “اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه”.

بالقرآن تثبت القلوب في زمن الفتن

ما أحوجنا إلى القرآن دائمًا، ولكن حاجتنا إليه أعظم في هذا الزمان زمان الفتن والظلم، فنحن أحوج ما نكون إلى القرآن نتمسك به ليأخذ بأيدينا إلى برّ الأمان، فعندما سأل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رسول الله ﷺ: “أبعد هذا الخير الذي نحن فيه شرّ نحذره؟ فقال له ﷺ: يا حذيفة عليك بكتاب الله فتعلمه واتبع ما فيه” حتى قال ذلك ثلاث مرات. ولقد رأى حذيفة في يوم من الأيام كثرة من الناس، فقال لأحد التابعين وهو عامر بن مطر: “يا عامر كيف أنت إذا أخذ الناس طريقًا واحدًا وأخذ القرآن طريقًا، مع أيهما تكون؟ قلت: أكون مع القرآن وأموت معه وأحيا معه. قال: فأنت إذًا أنت، فأنت إذًا أنت”. وفي الحديث أن رسول الله ﷺ قال: “ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: كما صنع أصحاب عيسى بن مريم نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب، لموت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله”.

إنه بقدر تمسكنا بالقرآن واتصالنا الدائم به تكون نجاتنا من الفتن بإذن الله عزّ وجل. قال رسول الله ﷺ: “أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلّوا بعده أبدًا”. يقول الدكتور مجدي الهلالي حفظه الله: “إن الفتن التي تمر بنا في هذا العصر كقطع الليل المظلم تجعل الحليم حيران، وليس أمامنا من عاصم إلا الله وحبله المتين، فلنسارع بالتعلق به. قال ابن مسعود إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله هذا الطريق، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن ومن شأن القرآن كذلك أن يبعد عن أهله أي بوادر لليأس والإحباط مهما اشتد الظلام وادلهمّت الخطوب، فهو يثبّت القلوب على الحق ويربط عليهما كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} آية 102 سورة النحل.

بالقرآن يزيد الإيمان

الإيمان هو جهاز المناعة لقلب الإنسان، ففي حالة زيادته يستطيع القلب أن يقاوم ضغوط النفس فيما تطلبه وتلهث خلفه من شهوات، وفي حالة نقصانه يضعف القلب ويستسلم لها في كثير من الأحيان. والشهوات تحيط بالإنسان من كل جانب ليلًا ونهارًا وبخاصة في عصر كعصرنا الذي نحيا فيه، والمسلم بحاجة دائمة إلى زيادة إيمانه وأفضل طريق لذلك هو القرآن بتذكرته المستمرة وبمواعظه البليغة التي تضرب بقوة على المشاعر فتؤججها وتوجهها وتسموا بها فوق الشهوات، قال تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} آية 2 سورة الأنفال. فالقرآن منبع عظيم من منابع الإيمان يفيض على كل من يرده، قال محمد بن كعب القرظي من قوله تعالى {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} آية 193 سورة آل عمران، قال: هو القرآن فليس كلهم رأى النبي ﷺ، والقرآن يمنح صاحبه طاقة هائلة وما عليه فقط إلا أن يحوّلها إلى حركة إيجابية فيما يحبه الله عز وجل.

يقول ابن القيم: “فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب وتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فطر الناس عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي فيصير بحق لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن الذي تعوّد عليه”. وأما ابن الجوزي فقد قال: “تلاوة القرآن تعمل في أمراض الفؤاد ما يعمله العسل في علل الأجساد”. وأوصى الإمام إبراهيم المقدسي تلميذه عباس بن عبد الدايم: “أكثر من قراءة القرآن ولا تتركه، فإنه يتيسّر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ”. وما أجمل ما قاله الشاعر مصطفى عكرمة:

كتاب الله للأرواح روح به تحيا النفوس وتستريح

يروح بها عن الدنيا بعيدًا وما أسماه حين بها يروح

وإن يهمس بآي منه ثغري أحس العطر من ثغري يفوح

وللنصر القريب له فتوح ولولاه لما كانت فتوح

به كنا الأعزّ وكم أقيمت لأمتنا بمنهجه صروح

هجرناه فأمسى العزّ ذلًّا وناح عليه منا من ينوح

وها عدنا إليه بكل حبّ عسى تشفى بعودتنا الجروح

أعد ربي لقومي منه روحًا فليس سواه للأرواح روح

ولدت لسبعة أشهر وحفظته في سبع سنين

وإن من أعظم خصائص القرآن الكريم كتاب الله الخالد أنه ميسّر للحفظ والاستظهار كما قال الله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} آية 17 سورة القمر. وإننا نرى هذا في أبناء الأمة الإسلامية في ماضيها وفي حاضرها حيث الشيوخ كبار السن يحفظون كتاب الله وحيث الصبيان دون الحلم كذلك يحفظوه، وهذا ما لا تجده في أي كتاب سماوي آخر لا يحفظه أي من الناس منهم، بل ولا حتى الرهبان والكرادلة والحاخامات، فلا يحفظون التوراة ولا الإنجيل لا كله ولا ربعه ولا نصفه عن ظهر غيب.

لا بل إننا نرى من أطفال المسلمين الأعاجم أي غير العرب من بلاد الهند أو الباكستان أو ماليزيا أو تركيا وغيرها ممن يحفظون القرآن الكريم كتاب الله كله من سورة الفاتحة إلى سورة الناس وهو المنزل بلسان عربي مبين، بينما لو سألت أحدهم بالعربية ما اسمك فإنه لا يفهم سؤالك وهذا من أعظم خصائص وإعجاز كتاب الله الخالد. نعم إنه لا يفهم سؤالك له بالعربية بينما هو يحفظ القرآن كاملًا بكل آياته 6232 آية، وبكل كلماته 73,440 كلمة، وبكل أحرفه 722,332 حرف، وبكل أجزاءه الثلاثين وسوره الـ 114 سورة.

لقد كنا نقرأ في الكتب أن الشافعي قد حفظ القرآن ابن ثماني سنوات فنعجب، وأن فلان من السلف قد حفظ القرآن ابن سبع سنوات فلا نكاد نصدق حتى كان من بيننا والحمد لله ومن أطفالنا في كل العالم الإسلامي المعاصر وحتى عندنا في الداخل الفلسطيني وفي عموم الوطن الفلسطيني في القدس الشريف وفي غزة وفي الضفة الغربية أطفالًا قد أتموا حفظ كتاب الله وبعضهم لم يتجاوز بعد السابعة من عمره.

إنه كتاب الله الخالد يسّره الله لطفلة من البوسنة ولدت وعمرها سبعة أشهر وكانت بين الموت والحياة لكن الله كتب لها الحياة، بل كتب لها أن تحفظ القرآن الكريم وهي لم تتجاوز سبع سنوات. بل إنه الأديب المصري القبطي الدكتور نظمي لوقا في كتابه -محمد الرسالة والرسول- فإنه يقول ويتحدث عن والده الذي أرسله إلى أحد الشيوخ في مدينه السويس ليحفظ القرآن بين يديه، يقول: لقد حفظت القرآن كله بينما لم أفلح وأنا المسيحي القبطي أن أحفظ أحد الأناجيل أبدًا.

إلا أنا بكتاب ربي أنظر

يقول المرحوم الشيخ أبو حسن الندوي عن علاقة فيلسوف الإسلام محمد إقبال بالقرآن الكريم: “لقد أثّر القرآن الكريم في عقلية إقبال وفي نفسه ما لم يؤثّر فيه كتاب ولا شخصية، ولم يزل محمد إقبال إلى آخر عهده في الدنيا يغوص في بحر القرآن ويطير في أجوائه ويجوب في آفاقه، فيخرج بعلم جديد وإيمان جديد وإشراق جديد وقوة جديدة. وكلّما تقدمت دراسته واتسعت آفاق فكره ازداد إيمانًا بأن القرآن هو الكتاب الخالد والعلم الأبدي وأساس السعادة ومفتاح الأقفال المعقدة وجواب الأسئلة المحيّرة وأنه دستور حياة ونبراس الظلمات”.

أما محمد إقبال نفسه فيقول عن فهمه للقرآن الكريم وعلاقته به: “إنك أيها المسلم لا تزال أسيرًا للمتزعمين للدين والمحتكرين للعلم، ولا تستمد حياتك من القرآن رأسًا. إن الكتاب الذي هو مصدر حياتك ومنبع قوتك لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة فتقرأ عليك سورة “يس” لتموت بسهولة، فواعجبًا قد أصبح الكتاب الذي أنزل ليمنحك القوة يتلى الآن لتموت براحة وسهولة. أقول لكم ما اؤمن به وأدين به: إنه ليس بكتاب بحسب، إنه أكثر من ذلك إذا دخل القلب تغير الإنسان وإذا تغير الإنسان تغير العالم”.

وما أجمل ما قالته الأستاذة الفاضلة أمل الشيخ:

لو أن عيني لم تعانق مصحفي بالله قولوا كيف قلبي يبصر

الناس تنظر بالعيون لما ترى إلا أنا، بكتاب ربي أنظر

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى