أخبار رئيسية إضافيةمقالات

معركة الوعي (110) شماعة “داعش” واستراتيجية شيطنة مجتمع الداخل

حامد اغبارية

مخطئ أو جاهلٌ من يظن أن الدُّول تحتاج إلى حدثٍ مَا (أمني أو سياسي) كي تقرر سياسات أو تتخذ خطوات أو تنفذ أجندات. هي فقط تستغل كل حدث كي يكون مبررا لقرار سياسي أو إجراءات أمنية تخدُم أهدافها الاستراتيجية الجاهزة أصلا والموجودة مسبقا. ليست هناك دولة تقرر لها الأحداثُ العابرة أو الطارئة إستراتيجياتها وسياساتها. وإذا وُجدت دولة كهذه فهي بالتأكيد دولة فاشلة أو هي ليست دولة، بل هي أقرب إلى القبائل البدائية. وفي حالات كثيرة تصنع الدولة أحداثا وتخلق أزمات من أجل تحقيق أهداف وتنفيذ سياسات. هكذا فعلت أمريكا مثلا في حربها على العراق عام 2003 عندما اخترعت كذبة امتلاك العراق أسلحة غير تقليدية، لتبرير حربها الصليبية. كذلك الأمر في الحرب على أفغانستان. وأقرب مثال نعيشه الآن الحرب الروسية على أوكرانيا وتبريرات موسكو لشنها هذه الحرب، بينما يعلم الجميع الأهداف الحقيقية والتاريخية للقيصرية الروسية.

وهكذا تجد أن الدول لا تحتاج أحداثا معينة كي تشن حملة شيطنة، لكنها تستغلُّ أيَّ حدث، وإنْ لم تجدْه تصنعُه، كي تبرر (للرأي العام) ما تفعله وما ستفعله. وتراها تشيطنُ كذلك كي تصنع حدثا أو تستدرج طرفا أو أطرافا لاتخاذ مواقف أو تنفيذ أفعال تبرر المزيد من الشيطنة والمزيد من القمع والتضييق.

هذا ينطبق تماما على المؤسسة الإسرائيلية في تعاطيها مع حادثة الخضيرة، وقبلها مع حادثة بئر السبع. وعليك أن تتنبّه إلى أن الماكينة الإعلامية، التي تشكل في هذه الحالة كتيبة المواجهة الأولى لمجمل السياسة الإسرائيلية، كانت قد بدأت التحضير لهذه الأجواء قبل وقوع حادثة بئر السبع، من خلال ضخ إعلامي تضليلي وموجَّه ومدروس حول القدس والمسجد الأقصى، وربط أي حدث قادم بشهر رمضان المبارك؛ كل هذا استعدادا لتنفيذ سياسات خُطط لها بشكل مسبق.

هذا في السياسة يسمى “تجهيز الرأي العام” للقبول بأية خطوات أو سياسات تتخذها الحكومة الإسرائيلية عندما يحين الوقت الذي حددته مسبقا. وليس أفضل من حدث كحدث الخضيرة يُنسب إلى “داعش” أو إلى مؤيدين لـ “داعش” لجعل الرأي العام، المشحون أصلا ضد كل ما هو عربي وفلسطيني ومسلم، وعلى الأخص ضد كل ما له علاقة بأي تيار إسلامي، كي يقبل برِضًا تام وبتشجيع وتصفيق يصل في مثل هذه الحال إلى أقصى درجات التحريض الدموي، يقبل بأية أية خطوات تتخذها الحكومة الإسرائيلية، حتى لو كانت هذه الخطوات متمادية جدا، ومخالفة للقانون المحلي والدولي ولحقوق الإنسان، وحتى لو كانت تنضح عنصرية وفاشية.

ولعل ربط حادثي بئر السبع والخضيرة بتنظيم “داعش” من شأنه أن يسهل على السلطات الإسرائيلية تحقيق اختراق في الرأي العام الفلسطيني في الداخل كذلك، لأنها تعلم علم اليقين أن مجتمع الداخل الفلسطيني يرفض، من يمينه إلى يساره، ومن شماله إلى جنوبه وبكل تياراته السياسية والدينية، كل ما (ومَن) له علاقة بهذا التنظيم.

حقيقة الأمر- حتى حسب تقديرات جهات أمنية إسرائيلية- ليس هناك في الداخل الفلسطيني تنظيم لـ “داعش” له قيادة وبرنامج، ولا توجد حتى خلايا نائمة ولا مستيقظة، كما يروّج الإعلام العبري. ربما كان هناك أفراد يؤمنون بأفكار أو بعض أفكار “داعش”، أو أفراد آمنوا بها ذات يوم ثم اقتنعوا أنها ليست هي السبيل إلى تحقيق ما يؤمنون به. وهذا حدث مع كثيرين من أفراد اعتقلوا على هذه الخلفية. وليس هناك أي دليل قطعي يثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن منفذ عملية بئر السبع أو منفذي عملية الخضيرة فعلوا ما فعلوه لأنهم يحملون أفكارا “داعشية”. وكل ما يقال إنما هو افتراضات إسرائيلية بالدرجة الأولى. وربما كان هذا لتحقيق أهداف معينة.

لم يتحدث أحدٌ- مثلا- عن الدوافع المُحتملة التي ربما تكون قد دفعت هؤلاء الشبان (الثلاثة) إلى تنفيذ العمليتين في بئر السبع والخضيرة، ولو من باب التحليل السياسي أو الإعلامي. وبمجرد أنْ قال مَن قال إن هؤلاء ينتسبون إلى “داعش” خرج الجميع في هجمة شرسة على مجتمع الداخل، دون أن ينظروا في الدوافع والأسباب التي يمكن أن تكون بعيدة كل البُعد عن أفكار “داعش”، ذلك التنظيم الغامض الذي لا يعرف أحدٌ حقيقة الجهات التي أسّسته ومَن الذين يقفون خلفهُ – حقيقةً لا افتراضا- ولا من هو المستفيد من وجود تنظيم كهذا، ارتكب أكبر وأكثر جرائمه ضد المسلمين؛ في سوريا وفي العراق وفي سيناء وفي ليبيا وغيرها.

لم يسأل أحد السؤال الواجب حول دوافع منفذ عملية بئر السبع، في ظل أوضاع مأساوية يعيشها الأهل الفلسطينيون البدو في قضاء بئر السبع (النقب)، وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ 1948، والتي أوصلت الأوضاع إلى درجة الانفجار، وخاصة ما تنفذه الحكومة الحالية من هدم بيوت وتجريف أراض وضغط اقتصادي وأمني متراكم. فهل سأل أحدنا نفسه: أليس ما يعانيه الأهل في النقب هو عمليا برميل بارود يمكن أن ينفجر في أية لحظة في وجه من صنعوه بسياساتهم الحمقاء والعنصرية؟ ألم يكن هناك احتمال أن يصل كثيرون من الشبان في النقب إلى قناعة بأن سياسات الحكومة هي التي تدفع الناس دفعا إلى مثل هذه الأعمال اليائسة؟ ألا يمكن أن تكون مثل هذه العمليات هي ردة فعل- مثلا- على تشكيل مليشيات دموية مسلحة في بئر السبع؟ ألا يمكن أن يكون سبب ذلك هو التحريض المتواصل على أهل النقب واتهامهم بأنه لصوص وحملة سلاح ومستولون على “أراضي الدولة”، في الوقت الذي يحمل أهل النقب كواشين الطابو التي تؤكد ملكيتهم التاريخية والقانونية “لأراضي الدولة”؟ أليس من الممكن أن يكون منفذ عملية بئر السبع قد فعل ما فعل، ليس لأنه آمن ذات يوم بأفكار “داعش” التي أكد كثيرون من أقاربه ومعارفه أنه تركها وتبرأ منها، وإنما لأن هناك من يقتل أقاربه بدم بارد، كما حدث مع المربي يعقوب أبو القيعان، أو ما حدث مع الشاب سند الهربد قبل أيام قليلة؟

إن علينا أن نقرأ المشهد من زواياه الصحيحة. وزواياه الصحيحة ليس للرواية الإسرائيلية أي دور أو مكان. فالرواية الإسرائيلية تتبنى دائما ترويج الافتراءات التي نعرفها كما نعرف أسماءنا. وعلينا أن نتصدى لكل هذه الافتراءات والأضاليل والأكاذيب. وبدلا من جلد الذات وتبرئة الذات والخروج في كل مرة باستنكارات ممجوجة وتلقُّف الرواية الإسرائيلية وكأنها وحي من السماء – والعياذ بالله- وبناء المواقف انطلاقا منها، علينا أن ننظر في عيون المؤسسة الإسرائيلية بكلّ أجهزتها السياسية والأمنية وغيرها، ونقول لها بوضوح إن سياساتها في القدس والأقصى، وسياساتها تجاهنا وتعاملها معنا من منظار العقلية الأمنية ومن خلال فوّهة البندقية، وإن سياسة القمع والتضييق في الأرض والمسكن والتضييق السياسي والاقتصادي والنفَس العنصري القبيح الذي تتبناه، حتى أصبح سلوكا عاما سائدا طافيا على السطح في المجتمع الإسرائيلي، والملاحقة والحصار الذي بلغ درجة محاصرة الأفكار والمحاسبة عليها، هي التي صنعت وتصنع وستصنع براميل البارود المؤهلة للانفجار في أية لحظة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى