أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

الأم وما أدراك ما الأم؟!

ليلى غليون

الأمومة حلم جميل يتفجر في وجدان كل فتاة بعد زواجها، فلا تكتمل سعادتها إلا بذاك الشعور الرائع الذي يلامس قلبها حين تصبح أمًا يتأرجح طفلها بين يديها وينام قرير العين على صدرها. الأمومة بمفهومها الرائع، نهر جار من المشاعر الفياضة لا ينضب يغمر الأبناء بدفء المشاعر ورقة الأحاسيس ينقلهم بأشرعته إلى حيث الأمن والأمان والحب اللا مشروط.

الأمومة بمعانيها السامقة باقة ورد تنوعت أصنافها وألوانها وأريجها الساحر عبق على الكون بأسره. هي أنشودة الأمل التي تدغدغ أوتار قلوب صغارها فتستكين آمنة مطمئنة. هي الوتد الصلب هي قطب الرحى هي الحضن هي الحصن الذي يحافظ على التركيبة السليمة للأسرة ويقيها من عاديات الزمان. هي الأرض هي الوطن الذي إن فارقتها أو فارقتك تشعر وكأنك لاجئ في بلد غريب، تثور فيك مشاعر الغربة والحنين لذاك الوطن لذاك القلب الكبير. هي الكلمة الجامعة لكل مفردات الحب والعطف والعطاء والتضحية، فبين هذه المفردات الأم والأمومة.           هي الجندية المرابطة على ثغور أسرتها، تعمل وتكد وتضحي وتسهر وتتألم وتصبر وتؤثر على نفسها تعاني ولكن بصمت فلا تسمع أحدا أنينها، تغضب لكن سرعان ما ينهزم غضبها أمام حشود عاطفتها الجياشة، تعطي وتعطي وقد تنسى نفسها في زخم هذا العطاء، لأنها بالأصل لا تتقن إلا لغة العطاء، بل لا تنتظر من أحد الجزاء، تكفيها ابتسامة تشع من ثغر صغيرها لتنسيها آلام الدنيا وما فيها من نكد ومنغصات.

هي كما قال شمس الدين التبريزي “شخص واحد فقط سيمر في حياتك خطوط يديه تشبه خارطة وطنك ما أن يسحب كفه من مصافحتك حتى تشعر أنك في المنفى”. نعم ما إن تبتعد أو تغيب عنك حتى تشعر أنك في المنفى.

إنها القوية بضعفها، إنها العظيمة بعاطفتها، إنها الغيث بروائها، إنها الشمس بدفئها، إنها الليل بسكونه، إنها البدر بصفائه وضيائه وبهائه، إنها الأم وما أدراك ما الأم.

فكم تؤلمني تلك العبارة التي تخرج من أفواه الكثير من الأبناء والبنات إن لم يكن جلهم عند سؤال أحدهم: ماذا تعمل أمك؟ لتأتي الإجابة بلا تردد (إذا كانت أمه لا تعمل خارجا): “أمي قاعدة في البيت لا تعمل”.

كم هذه العبارة جريمة في حق الأمهات، بل هي اللغم الناسف لجبل العطاء الكامن في شخصية الأم التي سخّرت نفسها ووقتها وصحتها طائعة وسعيدة لأبنائها وزوجها وبيتها، وكأن كل المهمات التي تقوم بها من القائمة الطويلة التي لا تنتهي من الأعمال المنزلية تضعها في خانة: “قاعدة في البيت لا تعمل”. إذا كانت لا تعمل خارجًا، رغم أن الإجابة قد تأتي ببراءة ومن غير قصد. فهذه هي الأم الرائعة وتلك هي الأمومة الحقة. فالأمومة الحقة ليست في أن تنجب المرأة، ولا كم من الأبناء والبنات أنجبت. والأمومة الحقة ليست في أن تتقن فن الطبخ وإعداد الكعك وما لذّ وطاب منه وإن كان ذلك ضمن مهامها. وليست الأمومة الحقّة أن تحصل على أعلى درجات العلم والمعرفة وأن كان العلم في سلم الأولويات التي يجب على كل إنسان السعي لنيله.

وليست الأمومة الحقة في تنظيف البيت وترتيبه وغسل الملابس وكيها وكل القائمة الطويلة من الأعمال المنزلية، وإن كان ذلك من متطلباتها. إن كل ما ذكر لن يكون له الأهمية إذا لم ترق الأم إلى المستوى المطلوب وتستطيع العزف على منظومة الحياة الأسرية بامتلاكها القدرة والمهارة على توزيع المشاعر والنظرات الحانية واللمسات الدافئة والهمسات والكلمات الرقيقة على الأبناء والزوج. إن ذلك كله لن يكون له الأهمية بمكان إذا لم يكن بمقدورها إشباعهم عاطفيا. إن ذلك كله لن يكون له الأهمية إذا عجزت أن تكون لهم الناصح الأمين والمرشد الواعي الذي يستطيع قراءة نفسه أولا ثم قراءة نفوسهم وقراءة المحيط الذي تعيش فيه وما يحتويه من مخاطر وأشواك تربوية حتى تستطيع تشكيل معادلة سليمة تكمن في صالح الأبناء وتربيتهم. إن ذلك لن يكون له الأهمية بمكان إذا كانت عاجزة عن الاستمساك بزمام الأمور ولم تنجح في بناء جسور التواصل والثقة والصراحة بينها وبين أفراد أسرتها.  إن مشاركتها الوجدانية وعاطفتها تساوي الدنيا وما فيها، إن مجرد رؤيتها ووجودها في البيت يسبغ على الأبناء وكذلك الزوج السكينة والراحة النفسية. فلو كان دورك أيتها الأم يقتصر على المهمات المنزلية فقط، لأمكنك استئجار أي أحد للقيام بها، ولكن دورك أعظم من ذلك بكثير، لأنك تمثلين الحضانة والحصانة والتربية لأرقى وأشرف وأكرم مخلوق وهو الإنسان، فأنت في بيتك تتعاملين مع الإنسانية كلها، وبقدر نجاح هذا التعامل يكون نجاح بناء الأجيال ومن ثم نجاح الأمّة بأسرها.

فيا صمام الأمان الذي يبث في النفوس أهازيج السكينة والأمل، اعذريني لأني لم أحتفل بيوم يتيم أعدوه لك سموه عيد الأم، واعذريني لأني لم أبعث لك باقة من الزهور الموسمية كما بعثها كل المحتفلين بيومك المعلوم إلى أمهاتهم والتي ستذبل مع صبيحة اليوم التالي أو بعده بقليل، أتدرين لماذا؟ لأن لك في قلبي كل يوم ألف عيد وعيد وقد زرعت لك في هذا القلب ألف زهرة وزهرة لا تذبل ما دام هذا القلب ينبض بالحياة، فأنت اليوم وغدا وكل يوم أنت أمي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى