أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

الفالنتاين، أساطير متعددة

ليلى غليون

لن ألبس لباس الواعظين مع فتياتي اللاتي أحبهن كثيرا، ولا مع أبنائي الشباب الذين أكنّ لهم كل التقدير والاحترام كونهم وكونهن قلب الأمة النابض، وعمودها الفقري وجسر مستقبلها المتين، ولكنها لفتة مني إليهم وإليهن قبل الانجرار في غمار هذا الأتون المحرق، وتقليد كل تقليعة مستوردة، والتدافع وراء هذه السخافات، للتعرف على حقيقة هذه المناسبة الحمراء التي خصصوا لها مساحات في حياتهم وكلماتهم ومشاعرهم ولباسهم وهداياهم. مساحة حمراء مشتعلة حجب لهيبها الأحمر الرؤيا عن البصائر وخدر الإحساس بالمنطق، وأصمّ الأذان عن صراخ الحقيقة التي تقول بل تتوسل: أن عودوا أيها الشباب أيتها الفتيات إلى دوركم الريادي، فأنتم الأمل المعقود والذخر المرصود للمستقبل المنشود، أنتم الغيث النازل، والعزم الثائر، أنتم جيل الوارثين الذين ستحملون حملا ثقيلا وهمّا كبيرا وإرثا ضخما سلمكم إياه السابقون وجعلوه أمانة في أعناقكم لتكملوا مسيرتهم وعلى خطاهم في الذود عن حياض الإسلام والمسلمين.

فيا كل المحتفلين بالفالنتاين، لو تعلمون قصة هذا “العيد”!   إن ما يسمى بعيد الحب أو الفالنتاين، هو من الأعياد الرومانية الوثنية، فقبل ما يزيد على سبعة عشر قرنا كانت الوثنية سائدة في المجتمع الروماني، والفالنتاين في المفهوم الروماني هو تعبير عمّا يسمى بالحب الإلهي، ولهذا العيد الوثني أساطير متعددة ومن أشهرها: أن الرومان كانوا يعتقدون أن (رومليوس) مؤسس مدينة (روما) أرضعته ذات يوم ذئبة فأمدته بالقوة ورجاحة الفكر، فكان الرومان يحتفلون بهذه الحادثة في منتصف شهر فبراير من كل عام احتفالا كبيرا، وكان من مراسيمه أن يذبح فيه كلب وعنزة، ويدهن شابان مفتولا العضلات جسميهما بدم الكلب والعنزة، ثمّ يغسلان الدم باللبن، وبعد ذلك يسير موكب عظيم يكون الشابان في مقدمته يطوف الطرقات، ومع الشابين قطعتان من الجلد يلطخان بهما كل من صادفهما، وكانت النساء الروميات يتعرضن لتلك اللطمات مرحبات، لاعتقادهن بأنها تمنع العقم وتشفيه. وبعد اعتناق الرومان للنصرانية ظلوا يحتفلون بهذا العيد، ولكنهم نقلوه من مفهومه الوثني إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب، ممثلا في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام الذي مات في سبيل ذلك حسب مزاعمهم حيث اعتبر القديس فالنتين شفيعا للعشاق وراعيهم. وكان من اعتقاداتهم في هذا العيد، أن تكتب أسماء الفتيات اللاتي في سن الزواج في لفافات صغيرة من الورق وتوضع في طبق على منضدة، ويدعى الشبان الذين يرغبون في الزواج ليخرج كل منهم ورقة، فيضع نفسه في خدمة صاحبة الاسم المكتوب لمدة عام يختبر كل منهما خلق الآخر، ثم يتزوجان، أو يعيدان الكرة في العام التالي يوم العيد أيضا. وهناك أسطورة أخرى تقول أن الرومان كانوا أيام وثنيتهم يحتفلون بعيد يدعى (لوبركيليا) وكانوا يقدمون فيه القرابين لمعبوداتهم، ويعتقدون أن هذه الأوثان تحميهم من السوء، وتحمي مراعيهم من الذئاب. فلمّا دخل الرومان في النصرانية، وحكمهم الإمبراطور الروماني (كلوديوس الثاني) في القرن الثالث الميلادي منع جنوده من الزواج لأن الزواج يشغلهم عن الحروب التي كان يخوضها، فتصدى لهذا القرار (القديس فالنتين) وصار يحرر للجنود عقود الزواج بصورة سرية، ولكن أمره افتضح فسجن ووقع في حب ابنة السجان، وحُكم عليه بالإعدام الذي نفذ يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي، ليتخذ هذا التاريخ بعدها مناسبة لما يسمى بعيد العشاق إحياء لذكرى فالنتاين. نعم، هذه هي حقيقة هذه المناسبة التي يحتفل بها العديد من الشباب والصبايا المسلمين في الرابع عشر من شهر شباط، حيث تختفي جميع الألوان إلا اللون الأحمر، ليتحول فجأة كل شيء للون الأحمر من ملابس وهدايا وورود، فمحلات بيع الورود والهدايا تكون في حالة طوارئ وتصطبغ باللون الأحمر القاني من كثرة المعروضات الحمراء من ورود ودببة وشموع وهدايا مختلفة يتبادلها الشباب والصبايا في هذا اليوم، لا بل هناك من يقوم بصنع الحلويات باللون الأحمر إكراما لهذه المناسبة، ليأخذ هذا اليوم طابعا استهلاكيا جنونيا، بالإضافة للمخالفات الشرعية والأخلاقية التي تبرز في هذا اليوم بالذات، ليمسخ مفهوم الحب السامي ويختزل في إطار ضيق جدا لا يتعدى علاقة محرمة بين شاب وفتاة يتبادلان الورود والبطاقات الحمراء في هذا اليوم، ناهيك عن الخلافات الزوجية التي تحدث بسبب نسيان بعض الأزواج لهذه المناسبة لتقيم الزوجة الدنيا ولا تقعدها اعتقادا منها أن نسيان زوجها لهذا التاريخ دليل عدم محبته لها.  إنّ الحب مفهوم جامع عميق، وهو وطن كبير لا تحدّه حدود ولا لون ولا تاريخ ولا مناسبة ولا موسم ولا وقت، ولا هو يوم خاص يحتفل به حتى إذا غربت شمس ذاك اليوم أفل مع أفولها، إنّه وطن فسيح لن تقوم للكون قائمة بدونه، فيه تتعانق القلوب الصافية، وتتصافح المشاعر الحانية، أزهاره لا تعرف الذبول، وعطره لا ينفد عبقه، يتسامى عن الطين وأوحال الأرض. إن الحب أعمق وأقدس وأعمّ من مجرد مشاعر متأججة تربط بين رجل وامرأة تنتهي صلاحيته وتاريخه مع هدأة هذه المشاعر وخمودها، بل هو أسمى من مجرد رغبة وشهوة بشرية آنية تنتهي وتتلاشى لحظة تحققها، وهو أنقى وأرقى من مجرد إحساس عابر يبدأ بوردة حمراء يقدّمها شاب لفتاة مع كلمة معسولة، وينتهي بمستقبل أسود أغبر يعفر غباره وجه الفتاة تحديدا.

إن مفهوم الحب، مفهوم عظيم أرسى قواعده إسلامنا العظيم المبني أصلا على دعائم الحب الراسخة المتينة، وأسمى درجات الحب حبه سبحانه وتعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يتحقق إيمان أحد حتى يتحقق في قلبه ويستقر حب الله جل وعلا وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بل لا يتحقق كمال إيمان أحد ما لم يتحقق في قلبه حبه لأخيه كما حبه لنفسه لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه”، فتلك هي صورة الحب الحقيقي في التصور الإسلامي، وليست صورة الحب الفالنتيني القاصرة المشوهة.

أرأيتم أجمل من هذه الصورة؟ إنها صورة لنقاء النفوس وطهارة القلوب وصفاء الصدور لا تعرف أنانية ولا مصالح شخصية، ولا شهوات عابرة، إنها صورة فذّة رائعة لامتزاج النفوس والقلوب والأرواح لتصبح كتلة واحدة من المشاعر الفياضة الحانية الرقيقة تفيض على من حولها ولا تستثني أحدا، نباتها الصدق وتربتها الوفاء ورواؤها التضحية وهواؤها التسامح، أشجارها دائمة الخضرة وثمارها لا تنتهي. فأي فالنتاين هذا الذي يحتفل به شبابنا وفتياتنا؟!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى