قراءة سريعة في الحراك النقباوي
ساهر غزاوي
يُقدم الحراك النقباوي الذي يتقدمه جيل الشباب نموذجًا حيويًا في القدرة على المواجهة والإصرار على تحقيق الانتصار، ويعطينا الصورة الحقيقية لهذه المجموعة الأصلانية التي حين يتعلق الأمر بالوجود والهوية والكرامة والتاريخ فإنها تنتفض وتخرج عن بكرة أبيها إلى الشارع دون إذن أو إشارة من أحد لتنتزع حقها انتزاعًا من مخالب وأنياب نظام الابرتهايد وممارسته القمعية.
هذه المجموعة الأصلانية، فشل المشروع الصهيوني عبر أكثر من سبعة عقود بترويضها وفشل في الرهان على تذويبها وأسرلتها بمجرد أن يمنحها الجنسية الإسرائيلية وبعضًا من الامتيازات المعيشية والحقوق المطلبية، وفشل في صناعة وعي جديد للعربي الفلسطيني حتى يحارب معه جنبا إلى جنب لطمس الهوية الفلسطينية الجماعية ومظاهرها المتأصلة والمتجذرة في هذه المجموعة الأصلانية، حتى صار أولئك الذين يمارسون هذه “التقية السياسية” تحت أي مسمى وتحت أي شعار، عبارة عن حالة معزولة خارج إطار الإجماع الوطني لأبناء مجتمعهم في الداخل الفلسطيني ولأبناء شعبهم الفلسطيني في القدس المحتلة وفي الضفة الغربية وقطاع غزة وكافة أماكن تواجده في الشتات واللجوء وخارج إجماع امتداداهم العربي والإسلامي والإنساني عامة.
هذا الحراك النقباوي الذي يتقدمه جيل الشباب أقضّ من مضاجع أوساط إسرائيلية متعددة باتت تُصنف هذا الحراك على أنه “تهديد استراتيجي يفوق خطره تهديد الصواريخ، وذلك منذ أحداث أيار/مايو 2021″، وتطالب بمواجهته قبل تحوله إلى خطر حقيقي على مستقبل الدولة لأنه، بحسبهم، يمر في سمته مرحلة “الفلسطنة والأسلمة”. هذا فضلًا أن الشباب المنتفض أدرك أن هذه الحراكات باتت تُزعج السلطات الإسرائيلية، لذلك اتخذها وسيلة ضغط لتحقيق أهدافه مع ترك مساحات للمسارات القانونية والسياسية الأخرى، ولعلمه أيضًا أن القلق يساور الأوساط الإسرائيلية من امتداد “انتفاضة النقب” إلى مدن بالداخل الفلسطيني والتحامها مع نقاط مشتعلة في القدس المحتلة وعدة مناطق في الضفة الغربية إلى جانب جبهة غزة الساخنة. بحسب ما أوردته صحيفة “هآرتس” قبل أسبوعين.
يضاف هذا الحراك الجماهيري الشعبي الذي يقوده جيل الشباب في منطقة النقب، إلى حراكات جماهيرية وشبابية عديدة شهدتها ميادين الداخل الفلسطيني في العقود الأخيرة وخاصة في النصف الثاني من العقد الأخير، في كل من النقب والمثلث والجليل والمدن الساحلية، وإن دلّ ذلك على شيء فإنه يدل على الوعي الذي لا يمكن إلا أن ينبع من انتماء للهوية الجماعية ومفهوم الخلاص الجماعي (الـ نحن) المُقدم على مفهوم الخلاص الفردي الذاتي (الأنا)، وإن كانت هذه الحراكات تحمل في ظاهرها في بعض الأحيان مطالب حقوقية، فإن طابعها الحقيقي يحمل دوافع ذات أبعاد وطنية وقومية ودينية، لا سيّما وأنه يمارس ضد هذه المجموعة الأصلانية التمييز العنصري من دولة تقودها أغلبية قومية دينية منذ أكثر من سبعة عقود. وهذا يدل على أننا أمام مرحلة جديدة في صراع المجموعة الأصلانية في الحفاظ على وجودها وهويتها وكرامتها مع نظام الابرتهايد وممارساته القمعية، ويبشرنا بمراكمة مزيد من النقاط لمصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
هذه النخبة الشبابية التي تقود الحراكات الجماهيرية والشعبية في النقب وغيرها، مسلحة بالوعي والانتماء الديني والقومي والوطني، وضعت أمامها جميع التجارب والمحاولات لتحصيل الحقوق وللدفاع عن الأرض والمقدسات والإنسان، لذلك لا تنتظر الإذن من أحد للخروج إلى الشارع ولتقوم بواجبها، لأن هذه النخبة أيقنت أن مسار الكنيست ما هو إلا مضيعة للوقت، وأيقنت أن صلاحيات السلطات المحلية مقيدة بشروط تعجيزية، وتعلم جيدا أن القضاء الإسرائيلي مُسيسٌ لا يخدم إلا المشاريع الصهيونية ولا ينصف العرب الفلسطينيين، ورأت بأم عينيها، بل وعايشت المناكفات السياسية والتنافسات الانتخابية الجارية اليوم بين تيار مسار الكنيست نفسه والتي يعود ضررها بالأساس على أبعاد القضية التي انتفض الشباب النقباوي لأجلها.
من المهم الإشارة إليه في هذا السياق، أن هذا الحراك الجماهيري الشعبي الذي يقوده جيل الشباب في منطقة النقب، كما هو في باقي ميادين الحراكات السابقة التي شهدتها أم الفحم واللد وهبة أهالي يافا قبيل اندلاع هبة الكرامة في أيار الماضي بأسابيع قليلة.. وغيرها، ليست بعيدة عن مركز دائرة الأحداث الساخنة في القدس والمسجد الأقصى المبارك، حيث أن أهل الداخل الفلسطيني كان لهم الدور الهام والمركزي في الأحداث والهبات الأخيرة، وشاركوا في كسر إرادة الاحتلال وتسجيل نقاط لصالح الشعب الفلسطيني، لذلك ما يحدث اليوم هو ارتداد طبيعي من مركز الحدث (القدس والمسجد الأقصى).
ختاما، إن كان هناك من يعتبر أن تصاعد هذه الحراكات الجماهرية الشبابية في عدة تجمعات وميادين فلسطينية في الداخل والقدس وخاصة في العقد الأخير، ظهرت بهذا الزخم إبان الربيع العربي عام 2011 ومستلهمة أيضا من الحراكات الشبابية التي ملأت الميادين في بعض الدول العربية، فعليه أن لا ينسى أنه سبق ذلك عقد كامل (2000-2010) من الحراك والنشاط في نصرة قضية القدس والأقصى وفعاليات أيام الاعتصام والنفير والرباط في المسجد الأقصى ومحيطه وفي زقاقات البلدة القديمة وشوارع وأحياء مدينة القدس وخاصة في وادي الجوز. هذه الحراكات والفعاليات أحيت مكانة مركزية قضية القدس والمسجد الأقصى ودورها لتكون فيما بعد عاملا مهما في إحياء الحراك الجماهيري ومصدرا للإلهام حتى للربيع العربي نفسه، كما أن هذه الحراكات هي امتداد لتاريخ الحراكات المناهضة للاضطهاد الإسرائيلي لأبناء المجتمع العربي عامة، التي نجدها تتكرر كل فترة وفترة. وما هبة يوم الأرض في آذار 1976 وهبة القدس والأقصى في تشرين الأول عام 2000 عنا ببعيد.



