أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

معركة الوعي (100): تجديد الخطاب أم تجديد في الخطاب؟

حامد اغبارية

ربما تجد الكثيرين لا يتنبّهون إلى الفرق الشاسع، إلى درجة التناقض، في المعنى والمقصد والنتائج بين مصطلح “تجديد الخطاب الديني” وبين مصطلح “التجديد في الخطاب الديني”، حتى لكأنهم يظنون أن المعنى واحد والنتائج واحدة والمقاصد واحدة. غير أن الأمر ليس كذلك.

فما هو “تجديد الخطاب الديني”، وما هو “التجديد في الخطاب الديني”؟

من الضروري، بل من الواجب أن نفهم الفرق حتى لا تلتبس علينا الأمور، وحتى لا ينجح أحد في خداع الناس لدى استخدامه مصطلح “تجديد الخطاب” بينما واقع حاله وسلوكه يقول إنه يمارس عملية “تجديد في الخطاب” التي هي في الحقيقة تبديدٌ للخطاب وليست تجديدا له.

إن تجديد الخطاب الديني واجبٌ، بل هو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الشريف: (جددوا إيمانكم. قيل: وكيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟ قال: أكثروا من قول “لا إله إلا الله) رواه أحمد والحاكم والطبراني. فالتجديد مطلوب على مدار اليوم والليلة بأشكال وصور وأحوال وظروف مختلفة، وهو أوجب وأدعى عندما تكون الأمة في حالة ضعف وتراجع وتفكك، كما هو حاصل في زماننا، وبشكل أخص لمّا نجد أن هناك من اعتمد مصطلح “التجديد في الخطاب الديني”، وهو يوهم الناس بأنه يجدد الخطاب، وتراه يُطلق على نفسه، أو أنَّ أنصاره يطلقون عليه لقب “المجدد”، بينما هو في الحقيقة يطعن الخطاب الديني في مقتل.

فهل تجديد الخطاب الديني هو القبول بالواقع الذي فرضه الأقوياء على الضعفاء، ومن ثمّ تقديم التنازل تلو التنازل بحجة العقلانية والواقعية والتعايش مع الواقع المفروض، أم هو إحياء الدين ليستعيد قوته وعنفوانه في المجتمع لمواجهة هذا الواقع وتغييره وقلب موازينه؟

جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) رواه أبو داود، وصححه الألباني، وذلك بعد فتور وتفكك وتفلّت وضعف في الدين وانتشار البدع والأفكار الضالة، فيهيئ الله تعالى رجلا ربانيا صادقا مخلصا يجدد للناس دينهم، بمعنى أنه يحيي صحيح الدين في حياة الناس وفي الأمة ويحارب البدع والضلالات والأفكار الهدامة، ويواجه الغزو الفكري، ليحُول بين الأمة وبين السير في طريق التنازلات التي تصل في أحيان كثيرة إلى التنازل عن ثوابت دينية وعن مواقف أصيلة يُلزِم الإسلام بالتمسك بها أيا كانت الظروف والمحن والفتن، وأيا كان الواقع، ومهما ملك أعداء الأمة من أسباب القوة المادية.

من هذا نفهم أن “تجديد الخطاب الديني” معناه إحياء الدين في النفوس للنهوض بها، حتى ينهض أصحابها بمجتمعاتهم وأمتهم، بل لا يمكنك أن تقول حتى إن تجديد الخطاب الديني هو تطويره. فالخطاب موجود أصلا، لا يحتاج إلى تطوير، وإنما المطلوب من المتقدم للتجديد أن يزيل عن الدين ما اعتراه وما علاه من صدأ ليعود إلى قوته الأصلية من جديد. وبهذا المفهوم فإن تجديد الخطاب ليس تجديدا فيه وإنما هو تجديد له. لذلك فإن “التجديد في الخطاب الديني” ليس له إلا معنى واحد: التغيير والتبديل والتمييع، حتى يرضى الآخر، الذي يطالب دائما بالمزيد من التنازلات ولا يشبع حتى يصل “المجدد في الخطاب” مرحلةً يجد نفسه بلا بضاعة، بعد أن خلخل أركان الصرح ولم تبق سوى دفعة خفيفة حتى ينهار تماما.

إن جميع الذين جددوا الخطاب الإسلامي عبر التاريخ، وخاصة في تاريخنا المعاصر، إنما قصدوا إحياءه فِقهًا وأصولا ومعاملات، بعد أن أعمل الاستعمار وعملاؤه معاولهم في بناء الدين سعيا إلى هدمه، فكانت المهمة الأولى لتجديد الخطاب النهوض بالفرد والمجتمع ومواجهة الغزو الفكري الاستعماري. وفي حالتنا لا يختلف ما نعيشه اليوم كمجتمع في الداخل الفلسطيني وكشعب فلسطيني في مواجهة معاول المؤسسة الإسرائيلية عما عاشه المسلمون في أزمنة سابقة مع الاستعمار الغربي بدءا من الحملة الفرنسية الصليبية التي قادها نابليون بونابرت أواخر القرن الثامن عشر، وصولا إلى الاستعمار الانجليزي لفلسطين بعد إسقاط الخلافة والحرب العالمية الأولى، وصولا إلى النكبة عام 1948، كما أنها لا تختلف عما عاشته الأمة أيام الغزو الصليبي والغزو التتري في قرون سابقة.

وإذا كان تجديد الخطاب الديني يُقاس بنتائجه وآثاره فإننا عندئذ يمكننا أن نفرّق بين “تجديد الخطاب” وبين “التجديد في الخطاب” الذي هو عمليا تبديد للخطاب. وإننا نرى – على سبيل المثال- آثار “التجديد” الذي يقوده عضو الكنيست منصور عباس، ومِن خلفه التنظيم الإسلامي الذي ينتمي إليه. ومما نراه ونعايشه يمكننا أن نقول بكل ثقة إن هذا “التجديد” هو “تجديد في الخطاب” وليس تجديدا له، ومحصّلته الوحيدة: تبديد الخطاب الإسلامي.

كيف ذلك؟

إن هناك صحوة إسلامية في الداخل الفلسطيني لا تخفى إنجازاتها ولا مشروعها الأصيل على أحد. وقد عملت طوال عقود على تجديد الخطاب الإسلامي في مجتمع الداخل، فأحيت الدين في النفوس وفي القلوب وفي حياة الناس وفي معاملاتهم وفي سلوكهم، وأرست الثوابت التي علاها الصدأ بفعل عوامل خارجية وعوامل داخلية، وعملت على توجيه بوصلة هذا المجتمع نحو القضايا والهموم الجمعية التي عمل الاستعمار بكل أشكاله، وفي مقدمته المشروع الصهيوني، على تغييبها. فهل نحن بحاجة إلى تجديد الخطاب أم إلى الحفاظ على هذا الخطاب وإبداع وسائل جديدة لتقويته وحمايته من الاستهداف؟

إن كنا- كمجتمع في الداخل الفلسطيني- نحتاج إلى شيء من هذا فإننا نحتاج إلى الحفاظ على الخطاب الموجود أصلا، والذي بدأت مسيرة تجديده من منتصف سبعينات القرن الماضي، خاصة بعد أن خرج علينا من يريدون “التجديد” في هذا الخطاب، من خلال تمييعه وإضعافه بحجة البراغماتية، أو بحجة تحسين الظروف المعيشية للناس أو بحجج ومسوّغات لم نشهد من ثمارها إلا المزيد من التنازلات عن أصول الخطاب الإسلامي، والكثير الكثير من التصريحات التي يُبدي الآخر إعجابه بها، إلى درجة كيل المديح والتصفيق المتواصل.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى