أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

معركة الوعي (99): درس النقب- الفرصة الأخيرة

حامد اغبارية

أعلم أن هذا الكلام ربما لن يجد آذانا صاغية عند الذين أوجّهه إليهم، غير أن واجبنا هو التذكير والإبانة والتوضيح وإزالة الغموض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنكار ما لا ينسجم مع الفهم الصحيح لِما يجري ولِما يجب أن يكون عليه الموقف.

إن حجم الغضب الذي سببته جريمة السلطة الإسرائيلية في أراضي النقب خلال هذا الأسبوع لا يمكن قياسه إلا إذا عرفتَ حجم الظلم المجحف والجريمة الكبرى التي تواصل السلطة الإسرائيلية ارتكابها بحق الأهل في النقب، من خلال نهب الأرض وتحريشها والتضييق على الناس ونكد العيش الذي يلاحقهم بفعل سياسة رسمية ممنهجة تهدف إلى إخلاء خاصرة الوطن من أهلها وملئها بالمستوطنين وبالمشروعات الأمنية وغير الأمنية. وسواء شئتَ أم أبيتَ، رضيتَ أم سخطتَ فإن القائمة الموحدة برئاسة الدكتور منصور عباس جزء من الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الذي يمارس الآن عمليات قمع غير مسبوقة، إلى درجة أن أيدي أفراد الشرطة وقوات الأمن الأخرى امتدت إلى الحرائر من بنات النقب ونسائها في مشهد مسيء للكرامة والرجولة والمروءة، ويدلل على نوايا السلطة ومخططاتها، وعلى أن المواطن الفلسطيني في البلاد ليس له شأن في عيون السلطة، بل هو في نظرها يشكل عقبة في وجه مخططاتها، وفي التالي لا بد من تحييده أو التخلص منه بطريقة ما.

ولقد أفضنا في الحديث عن مساوئ توجهات وخيارات القائمة الموحدة، ومن خلفها الحركة الإسلامية الجنوبية التي تدعم هذا التوجه بكل قوة، وتدافع عنه بكل ما أوتيت من قدرة على التبرير، منذ اللحظة الأولى لإعلان نيتها المشاركة في الائتلاف، بل وقبل ذلك بكثير يوم بينَّا أن المشاركة في الكنيست الصهيوني ليست أقل من خطيئة سياسية كبيرة يحملُ من أقدم عليها وزرها ووزر من دعمها وآمن بها ودافع عنها وروّج لها وبرّرها وسوّغها وسوّقها وأوجد لها التخريجات الفقهية وغير الفقهية.

أفضنا في الحديث عن هذا كله وعن غيره، ولكن هؤلاء الإخوة حالهم كحال الفراشة؛ ترى النار الحارقة، ولكنها لا تفتأ تقترب منها وتحوم حولها وتقترب منها وتلامسها، حتى تسقط فيها فتحرقها. ولذلك فإنه لا يجوز التوقف عن الحديث عن هذه القضية الخطيرة، بل إن مواصلة التركيز عليها واجب شرعي ووطني، حتى يفيقوا من غفلتهم ويرجعوا إلى رشدهم ويقرروا إلقاء هذا الحمل الذي ألزموا أنفسهم به عن كاهلهم. وسواء أصغوْا وأنصتوا وقبلوا النصيحة أم لم يفعلوا فإن قولة الحق واجبة. وإني لأعلم أن بينهم من هو غير راض عما جرى ويجري، وأعلم أن هناك من حاول وقف النزيف، وأعلم أن هناك من صاح بأعلى صوته، لكن يبدو أن الإغراءات والأوهام والوعود كانت أقوى من أي صوت آخر.

عندما قرروا الذهاب إلى الكنيست عام 1996، لم أستوعب شخصيا هذه الخطوة، وما زلت غير مستوعب لها، لأن حجم الخطوة وكارثيتها كانت صادمة. وكان صادما أكثر أنها صدرت عن تيار إسلامي تحديدا. وكان لسان الحال يقول: غدا سيكتشفون حجم الخطأ ولن يطول بهم الأمر حتى يرجعوا. ولكن اتضح أنني أخطأت التقدير وقراءة الحدث، وأخطأت أكثر في قراءة ما وراء الحدث وما يحمله من أسرار. فقد مضوْا في ذات الطريق، وأنت تتابع وترى أن الهاوية تتسع يوما بعد يوم، وإذا بنا الآن أمام مشهد أسوأ بكثير وأكثر خطورة من مسألة المشاركة في الكنيست. إذ كيف يمكن أن تستوعب رؤية تيار إسلامي يجلس ليس فقط في المؤسسة التشريعية الصهيونية التي شرّعت كل ما أدى إلى ضرب وجودنا وكرامتنا والتضييق علينا ونهب حقوقنا وملاحقتنا ونزع شرعيتنا وشيطنتنا وتشويه روايتنا وسرقة تاريخنا وآثارنا، وإنما في ائتلاف حكومي مهمته تنفيذ تلك التشريعات الصادرة عن تلك المؤسسة التي يجلسون فيها؟ هل يمكنك الآن أن تتخيل حجم الكارثية في هذه الخطوة؟

أما ما يزيد الموقف عبثية فهو ذلك التصريح الذي خرج به عضو الكنيست، عضو الائتلاف الدكتور منصور عباس أول من أمس على خلفية همجية جريمة اقتحام أراضي النقب، حين قال إنه يرفض تحريش الأرضي دون التوصل إلى تسوية، مضيفا أنه وحزبه لن يصوتوا على قرارات الحكومة حتى يتوقف هذا الأمر!

ما معنى هذا الكلام؟

قد يراه بعض المصابين بسوء الفهم والهضم وقصر النظر أنه خطوة شجاعة جريئة غير مسبوقة. لكنها في حقيقتها لم تتجاوز دائرة اللعبة السياسية داخل الائتلاف. فكل كلمة محسوبة، بل حتى لهجة التصريح ذات معنى له مقاصده. وهي في حقيقتها لا تختلف عن أي تصريح يمكن أن يصدر عن أي مشارك آخر في الائتلاف لا يرضى عن قرار هنا أو قرار هناك، لكنه يكون حريصا على ألا يتجاوز الخطوط الحمراء، إلا إذا…

إلا إذا ماذا؟؟؟؟؟

إلا إذا كان هذا العضو الائتلافي قد اتخذ قراره بمغادرة عش الدبابير نهائيا. عندها تكون تصريحاته ذات معنى…

فما المقصود بقوله إنه يرفض ما يجري دون تسوية؟؟ هل معنى ذلك أنه سيوافق عليه بتسوية؟

هذه مصيبة! وهو بذلك لا يختلف عن غيره من شركاء الائتلاف. فـحزب “ميرتس” أيضا، وربما غيره يحمل نفس المبدأ. يعني: استوطن، وازرع الأحراش، واطرد، وافعل ما تشاء، ولكن بعد تسوية…!

هذا خطير. أخطر مما تتصور!

ألا يعلم الدكتور عباس أن أهل النقب، الذين بأصواتهم وصل إلى الكنيست (للأسف!) يرفضون أي نوع من التسويات على حقوقهم التاريخية وعلى وجودهم الأصلاني وملكيتهم لأرضهم؟ ألا يعلم أنهم لا يساومون مقابل بعض الحقوق الهزيلة وبعض الفتات؟؟؟ ألا يريد أن يستوعب حجم الظلم التاريخي الواقع عليهم وعلى سائر أبناء شعبهم الفلسطيني ومجتمعهم في الداخل؟ إنه يعلم. يعلم ويناور. يعلم ويسكت، يعلم ولا يفعل شيئا لصالحهم. زعم أنه هناك من أجلهم ومن أجل حل مشاكلهم، لكنه لم يفعل، ولا أظنه سيفعل، ليس لأنه لا يريد، بل لأنه لا يستطيع، لأن المؤسسة الإسرائيلية لها مخطط في النقب لن تتنازل عنه مهما كان الثمن، بعيدا عن أفلام المناورات السياسية التي ملَّ الناس مشاهدتها من كثرة التكرار.

يتوهم الدكتور منصور عباس (ليس الشخص وإنما الفكرة التي يحملها كتيار) أنه يمكنه اختراق المؤسسة الإسرائيلية وتغيير المشهد، بعد أن أوسعه الإعلام العبري نفخا وتمجيدا ومدحا. وهذه عملية خداع للذات والعيش في أضغاث أحلام لا تعبير لها ولا تفسير ولا تبرير..

كل هذا مقابل ماذا؟ في الحقيقة مقابل لا شيء.

فكلما توّهم من يتوّهم أن اللقمة أصبحت في الفم، جاء حدث وأيقظ الغافلين. هذا حدث طوال الوقت، وهذا يحدث الآن، وسيحدث غدا.

إن منصور عباس متشبث الآن بأسنانه بوجوده في ذلك المكان لأنه إن خرج فسوف ينتهي سياسيا. لذلك سيجد كل وسيلة كي يبقى هناك، ليس خوفا من سقوط الحكومة التي هي أسوأ من التي قبلها ومن التي بعدها ومن التي لم تولد بعد، وإنما خوفا على نفسه وعلى حزبه وتنظيمه ومستقبله.

أمّا إذا كان منصور عباس وتنظيمه يملكون الشجاعة فإن هذا هو الوقت الأنسب للانسحاب، ليس فقط من الائتلاف، وإنما من اللعبة السياسية الإسرائيلية برمّتها، والعودة إلى المكان الذي كنا نظنّ طوال الوقت أنهم عملوا طوال سنوات من أجل الوصول إليه… وسط شعبهم… بين الناس ومن أجل الناس… في خندق أبناء مجتمعهم.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى