أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

هذه غلطتي…

ليلى غليون

بعد أن دمرت القنبلة الذرية مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين نهاية الحرب العالمية الثانية، قال الناس للعالم أوتوهان (وهو عالم كيميائي ألماني اكتشف ظاهرة الانشطار النووي الذي مكّن من تصنيع القنبلة الذرية على الرغم أنه لم يشارك في تطويرها مباشرة): إن تلاميذك قد استغلوا معرفتهم بالفيزياء والطاقة في صنع القنبلة التي خربت العالم فقال: (هذه غلطتي، لقد علمتهم العلم ولم أعلمهم الأخلاق).

إن الأعمال الكبيرة والتي عظمتها قد تناطح الجبال، فإنها لا تغدو عن كونها هباء لا قيمة لها إذا افتقدت العنصر الأخلاقي، فليس أجمل ولا أروع من أن يتسلح جميع أفراد المجتمع بسلاح العلم وأن يتبوؤوا المكانة السامية والدرجات العلا في شتى أبواب المعرفة، وهذا واجبنا في كل وقت وحين بل هو الأساس الذي قامت عليه وانطلقت منه عقيدتنا (اقرأ)، وأن نسابق الريح ونكون الفرسان في ميادين العلوم المختلفة لنعود كما كنّا أساتذة الدنيا وسادتها بإسلامنا وعلمنا وأخلاقنا التي فتحنا بها قلوب الناس قبل أن نفتح البلاد والأمصار، ولا أبالغ لو قلت إننا نحرص أشد الحرص على تعليم أولادنا وندفع من عرقنا وأعصابنا وأموالنا الشيء الكثير في سبيل تحصيلهم وتفوقهم لينالوا الشهادات العالية والمناصب الراقية ويحققوا لنا الآمال والأمنيات التي عقدناها عليهم، وهذا بالتأكيد من لبّ واجباتنا نحوهم ولا ضير ولا غضاضة في ذلك، ولكن هل نحرص قبل هذا أن نزرع العنصر الأخلاقي فيهم ونغذيه ونوقظ فيهم الضمير الحي ليصبح تركيبة أساسية من مكونات شخصياتهم ونفسياتهم؟ هل علمناهم قبل هذا كيف يحفظون الله وحدود الله ومراقبة الله في السر والعلن؟ هل علمناهم قبل هذا كيفية احترام الصغير للكبير وكيفية المحافظة على حقوق الغير والاحسان للجار ومساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف وصلة الرحم وبر الوالدين؟ هل علمناهم كيف يحفظون السر وكيف يحفظون الألسن من الغيبة والأعين من النظر إلى الحرام والجوارح من الزلل؟ هل علّمناهم حب الإسلام وحب رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وحب الأوطان وحب إخوانهم في شتى بقاع الدنيا؟ هل أثرنا مشاعرهم لما يجري للمسلمين من ويلات ونكبات وسفك دماء ليشعروا بالانتماء نحوهم حتى يحملوا بعضا من هموهم وآلامهم ويساندوهم ولو بدعوة في ظهر الغيب؟

إن مجتمعاتنا تتعرض ومع بالغ الأسف لأزمة حادة في الأخلاق، وتسجّل بمرارة تدني منحنى القيم والأخلاق الجميلة، والصور التي تعكس ذلك ليست بالقليلة، فإذا اختلفنا لأمر بسيط دمر بعضنا بعضا، بل هناك من يفجر بالخصومة بالقذف والتشهير والسباب، وكم نسمع ونسمع عن فساد وإفساد وقطيعة أرحام وعقوق الوالدين واختلاف بين الإخوة والأسرة الواحدة وغيبة ونميمة وأعمال عنف بأشكاله المختلفة والذي قطع أوصالنا وغيرها من المخالفات السلوكية.

وإن نظرة إلى واقعنا العصيب وما يفرزه من معطيات سلبية، لتدل على أن دور الأسرة آخذ بالانحسار تربويا وتدل على مدى تقصيرنا في إمداد أبنائنا بالتغذية الأخلاقية وعدم تمكينهم قيميا وتحصينهم بأرضية أخلاقية صلبة وعدم إعطاء هذا الجانب العناية المطلوبة الكافية خاصة في هذا الوقت العصيب الذي يتعرضون فيه لحرب شعواء على الأخلاق والقيم بكافة الوسائل ومن مختلف المواقع والاتجاهات، وبالمقابل نحرص أشد الحرص على عدم التقصير في إمدادهم بالتغذية الجسدية والترفيهية بل والمبالغة في هذه التغذية التي تصل في كثير من الأحيان إلى حد الترف اللامعقول الذي دمر شخصية الأبناء وألبسهم ثياب اللامبالاة وعدم المسؤولية والاعتماد على الغير في معظم شؤونهم.

إن الأخلاق هي الركيزة والتي من غيرها لا يقوم للفرد ولا للمجتمع ولا للأمم قائمة مهما بلغت عظمتها وقوتها، ولقد ارتبطت الأخلاق الحسنة ارتباطا وطيدا بالعقيدة، فأخلاق المسلم عبادة تشمل كل تصرفاته وأقواله وأحاسيسه وتفكيره، وهي منظومة شاملة تجسد أولا علاقته مع المولى عز وجل ومع نفسه ومع الناس أجمعين: فالعبادة جُلُها أخلاق، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهر المسلم وتزكيه، والصيام (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) والحج (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).

ولمّا كانت هذه المنظومة الراقية كلًا لا يتجزأ فإنها تنعكس أيضا على علاقة المسلم مع نفسه، فيتزين بالآداب والأخلاق التي حثّ عليها الإسلام والتي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، قدوته في ذلك من كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم والذي أثنى عليه ربه عز وجل: (وإنك لعلى خلق عظيم).

وكذلك، فإن هذه المنظومة السامقة تشمل أيضا التعامل مع الناس والتخلق معهم بأفضل الأخلاق وأحسنها والتي هي جواز سفر لكسب قلوبهم وكسب محبتهم، فحسن الخلق جمال للنفس ليس بعده جمال، وقانون ليس فوقه قانون، وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق …) بل قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل وصائم النهار).

والأمم تبقى وترقى بأخلاقها، فإن ذهبت أخلاقها فكبّر عليها أربع تكبيرات، ومتى فقدت الأخلاق تفككت المجتمعات وتفكك أفرادها ثم النتيجة الانهيار والبوار وخراب الديار. وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا. وقد سئل حكيم عن أهم مكوّنات الأمة، فقال: القيم والقوت والجيش. قيل له: وإذا فرض على الأمة أن تتخلى عن واحد من هذه الثلاثة فعن أيها تستغني؟ قال: عن الجيش قيل له: وإذا فرض عليها الاستغناء عن واحد من الاثنين قال: عن القوت. قيل له: كيف تبقى أمة بلا جيش وبلا قوت؟ أجاب: إذا بقيت القيم راسخة فعن طريقها فسوف تحصل الأمة على أقواتها وتجيش جيوشها، أما إذا راحت القيم فقد ذهبت الأمة معها: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى