أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

التـــفاهة والسياسة والداخل الفلسطيني؟

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

بتنا نعيش في عصر تسجّل فيه أدوات التواصل الاجتماعية الوسيلة الحية والأكثر تأثيرا بين عموم الناس رغم اختلاف الأجيال في تعاطيها مع هذه التقانة ما بعد الحداثية، وتشكل مسرحا مخيفا للوهلة الأولى وحمَّال أوجه من حيث التأثير على المتابعين والمراقبين وتسيّدت هذه الأدوات المشهد وجرت العامة بله والخاصة خلف ما يكتب على صفحاتها وتحديدا في الشأنين الديني والسياسي وفي الشأنين الاجتماعي والمجتمعي وهذه ظاهرة عابرة للقوميات.

لا تغيب عين المُراقب عن الجدل والمناكفات التي تشهدها هذه المواقع والصفحات فضلا عن عموم وسائل الاتصال المرئية والمقروءة والمسموعة بين من ذكرت آنفا، أي بين السياسيين والمتدينين أو من لهم علاقة بالدين والتدين. ومنذ سنوات تشهد صفحات التواصل مشادّات بين أبناء التيار الإسلامي فيما بينهم ومع الآخرين من المنتمين أو المؤيدين للتيار العلماني وكان للتحالف الذي جرى بين الإسلامية الجنوبية وذراعها السياسي القائمة الموحدة عام 2015، مع باقي المكونات السياسية المشاركة في الكنيست الممثلة بالقائمة المُشتركة الذي عملت عليه مجموعة من النخب من أبناء الداخل الفلسطيني برسم انه مطلب جماهيري وما خلصوا إليه من توصية على مجرم الحرب وزير الدفاع الحالي بيني غانتس وتصريحاته العلنية أنّه لن يقيم حكومة ترتكز على أصوات العرب، ثم ذهابه للشراكة مع بنيامين نتنياهو ضاربا بتوصيتهم عرض الحائط، مذكرا إياهم بمكانتهم السياسية والاجتماعية في منظور الحركة الصهيونية ووليدتها أي الدولة، وهو ما أثار أدوات التواصل وعموم الميديا في الداخل الفلسطيني ووضع مسألة التوصية والمشاركة محل نقاش داخل العديد من نخب مجتمعنا وعمومه ومهّد الطريق نحو الاستعداد النفسي والأخلاقي لاختراق العقبة “النفسية” والمشاركة في الائتلاف والمسألة لا تتعلق جوهريا بالقائمة الموحدة ذراع الإسلامية الجنوبية بل بمكونات المشتركة، إذ أن من بين هذه القائمة من كان مستعدا للمشاركة في أي ائتلاف حكومي يُعرض عليه ماض على أساس من قاعدة التأثير من الداخل.

 

التفاهة والتعري الأخلاقي..

في هذه السلسلة من المقالات، سأتناول الوضعية السياسية العامة للمكوّنات السياسية في الداخل الفلسطيني ودورها في تحقيق تنمية سياسية فاعلة وناهضة في مجتمعاتنا تفضي إلى تمكين سياسي يؤسس قاعدة تتجاوز حالة الانهيار التي يتعرض لها مجتمعنا، وتأتي هذه المقالات بعد حملة شعواء يتمّ شنّها على بعضِّ من رموز العمل الإسلامي وفي المقدمة الشيخ كمال خطيب، خاصة الحملة التي يقوم بها بعض المنتسبين للإسلامية الجنوبية وذراعها السياسي، وقد ارتفعت وتيرة الأمر بعد مقابلته في تلفزيون إحنا مع الإعلامي بلال شلاعطة في برنامجه بعد الفاصل والذي بُثَّ يوم الاحد المنصرم 26\12\2021، عبر فيه عن قناعاته السياسية وكشف جانبا من مسيرة الحركة الإسلامية قبل الانشقاق ومحاولات رأب الصدع وموقفه السياسي من رئيس القائمة الموحدة النائب في الكنيست الدكتور منصور عباس وتصريحاته السياسية وموقف قيادات في الإسلامية الجنوبية من هذه التصريحات والتي كان آخرها ما تعلق بيهودية الدولة وهو موضوع سنناقشه منفصلا في هذه السلسة من المقالات، تبعه سيل عرم من التهجمات “الرخيصة” عليه، وخاصة ما كتبه الشيخ إبراهيم عبد الله مشخصنا العلاقة مع الشيخ كمال ومع الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وساقطا سقوطا حرًا سواء في ردوده أو مستوى كتابته التي لم ترق مطلقا لئن تكون ردا ومحاججة على ما أدلى به الرجل في تلكم المُقابلة وهذا في سياق الأقليات يعبر عن حالة التفاهة التي تحكم تصرفاتنا ومحاجاجاتنا، وهذه الحالة في ظل تغول العلمنة والرقمنة باتت تميز عصرنا الذي نعيش وواقعنا السياسي المتردي بل ومعبرة عن حالة التعري الإنساني والأخلاقي.

لم اعتد أن اكتب في جدل الكلام الذي طفا على السطح أكثر من مرة بين أبناء الحركة الواحدة قبل الانشقاق الذي أصابها عام 1996 بيدَّ انني اكتب هذه المقالات في هذه المرحلة بالذات ليس لأن الموحدة ذراع الإسلامية الجنوبية تشارك في حكومة علمانية-محافظة -متدينة فذلك موضوع ليس محله الصحافة ومقالات صحفية، وإنما أكتب تحسبا من أن ينكص الشباب عن المشروع الإسلامي بعدئذ نُكِبَ في غير موقع في عالمنا العربي ودخل فتنة وابتلاءات لمَّا تنتهي بعد أن أدت في كثير من بلدان العرب الى ردة ولا ابا بكر لها، وسيكون الاثم ابتداءً وانتهاءً في عنق من قابل الحجة بالتفاهة وترخص في الرد وهبط إلى درك اسفل بغض النظر عن اسمه ومكانته، ذلكم أنّ أدوات التواصل التي تُشنَّ عبرها حرب البسوس لن يكون غبارها محليا ومحصورًا. ولقد تعلمنا من سلفنا وعلمائنا فقه المنطق والمحاججات وكيف كان العلماء يردون على إخوانهم ممن عارضوهم القول والفتوى والتحليل ولا ينتطح عنزان ممن درسوا تاريخ المحاججات بين العلماء والفقهاء أن نمطا من الأحكام العقلية وضابطا أخلاقيا قد حكم بينهم ومن شذَّ منهم فقد مُلئت صفحات العلماء المنصفين في التثريب عليهم. ولأننا بشر فليس هناك منا من هو فوق النقد مهما كان هذا النقد قاسيا ما دام في سياق الادب ولنا في مطالع سورة “عبس” في القرآن المثال والعبرة، ولنا في آيات الذكر الحكيم وتناولها مواضيع الأنبياء والتوجيه وسبل الفعل السياسي وأخلاقياته المنضبطة بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، بيانا ساطعا. ومن أرادَّ أن يتصدر السياسة والعمل السياسي فعليه أن يُعِدَّ نفسه لكل طارق وطارئ وناقد، فالسياسة باب على قدر أهميته على قدر ما يحمل حامله من مسؤوليات تتجاوز ذاته ومحيطها المخصوص وفي تدبر شؤون الناس أي المسؤولية السياسية لمن ارتضاها، وفي هذا يذكر ابن الربيع العديد من الخِلال التي على المسؤول ان يتخلق بها، أذكر منها مقالته الثامنة: “أن يكون محبا للصدق وأهله كارها للكذب وأهله طَبعًا لا تكلفًا.. وفي الخُلة العاشرة يقول: “أن يكون كبير النفس محبا للكرامة، يُعظِّمُ نفسه عن كل ما يُشين من الأمور- أنظر الفلسفة السياسية عند ابن الربيع/دار الاندلس ،ص110”.

 

السياسة وتدبير الشأن العام..

السياسة وإن كانت فن الممكن عند الكثير ممن يزاولها ويُنَظِرُ لها فهي في جوهرها فن تدبير الشأن العام، ولذلك فالسياسة فن يُقارب حيوات الناس ويعالجها ويحاججها ويبين لها وفيها معالم العمل كما الخلاص، ولذلك كان من أهم سماتها أنها نشاط إنساني اجتماعي يتعلق بالعلاقات بين الناس وتبيين مصالحهم، وبين هذين الأمرين- أي امرُّ التنظير وأمر العمل- ثمة مراحل تشرع تنظيرا وتنتهي ممارسة تحيل السياسة إلى سياسات، إذ من معالمها نزولها واقعًا ليتضح من بعد ذلك عمليا صحتها من سقمها واعوجاجها من استوائها ليتم من بعد ذلك مراجعتها ثانية وثالثة حتى تكون في أحايين كثيرة على غير ما بدأت به أو تمر في عملية نضوج مستمر تستفيد منه المكونات السياسية (الأحزاب والحركات واللجان وكل جمع يشتغل بالسياسة) كما المجتمعات لتكون الموجه للناس، سواء كانوا أمةً أو شعبًا .

ما أروم الوصول بالقارئ الكريم والقارئة الكريمة إليه، أننا كمجتمع- إن صحت تسميتنا بالمجتمع- نحتاج فهم السياسة على أنّها تدبير الشأن العام وهو ما يتطلب إعادة النظر في البنية السياسية في الداخل الفلسطيني سواء للأحزاب أو للحركات أو للجان الجامعة وغير الجامعة، على اعتبار أنّ هذا التدبير أساسا من مهمة الدولة ولأننا أصحاب أرض تلبست بنا ظروف وأوضاع خارجة عن إراداتنا، فنحن كمن يقع عليه المثل العربي “ما حاك جلدك إلا ظفرك”، ولأننا نعيش تحت سطوة أغلبية تتجه مسرعة نحو التشدد تريد فرض نوع من الخوف والرهبة تعيدنا إلى مربعات الحكم العسكري وقد تعاقبت منذ النكبة وإلى اليوم على هذه السياسة والسياسات حكومات متتالية تغيرت أيديولوجياتها ولم تتغير سياساتها اتجاهنا، ولذلك فإنَّ المُشاركة مع مثل هذه الحكومات من طرف من يتعرض للخذلان والقهر تحت مسمى المنفعة والمصلحة والواقعية والتأثير من الداخل تصطدم مع واقع مماثل يدحض هذه المقولات، خاصة اذا ما كانت الرؤية تحمل منهجا استراتيجيا لا لحظويا آنيا برسم انه يؤسس لواقع أكثر ظلامية مما نتوقع، خاصة وأننا أمام مؤسسات تفاقم من ظلمها اليومي النازل على الكل الفلسطيني وعلى اطراف فلسطينية تحمل الهوية الإسرائيلية.

ثمّة ثلاثة ملاحظات أتطرق إليها في هذا المقال تؤسس للعنوان الذي دبجت به هذه المقالة ويشكل بيانا أوليا ومقاربا لمعنى مشاركة جسم سياسي عربي فلسطيني بغض النظر راهنا عن ايديولوجيته في حكومة تعلن أنها يهودية صهيونية تبرر وجودها بمستند ديني لاهوتي وتاريخي.

الأولى: أنّه لم يحدث حتى هذه اللحظات اية عملية مراجعة للمسيرات السياسية لأي جسم سياسي في الداخل الفلسطيني تشمل سياقاته السياسية والتنظيمية والمجتمعية يضع فيها كسوباته مقابل إخفاقاته وأين هي الأخطاء وأين هي الإيجابيات وكيفية تطوير الأخيرة وتفادي الأولى. ولم تحدث من قبل الساسة والسياسيين والمشتغلين بالشأن السياسي اية عملية مراجعات لتاريخ العمل السياسي في الداخل الفلسطيني وهو ما يعني أنّ تدبير الشأن العام ما زال بعيدًا عن اعين السياسيين.

الثانية: إن العملية السياسية في الداخل الفلسطيني شرعت منذ عام 1949 بالاشتراك في انتخابات الكنيست، ولست هنا بمعرض الحديث عن الكيفية والماهية والسبب، ومن هم الذين شاركوا، فقد حدث ذلك في ظل غياب قيادة/قيادات للفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم وعلى وطنهم، وبالتالي فقد أحدثت هذه العملية مراكمات سياسية وتجارب كان من نتائجها التراكمية ما وصلت إليه تلكم الأحزاب من التوصية على غانتس شكّلت في تصوري تكأة أخلاقية للمشاركة في الائتلاف الحكومي.

الثالثة: المؤسسة الإسرائيلية حققت اختراقا لمجتمعاتنا المحلية منذ اللحظة الأولى لقيام إسرائيل، وهذا الاختراق المُبكر خلق نوعا من المدافعات السياسية أفضت إلى وجود حركات رافضة للتعاطي مع الواقع السياسي المترهل، وفي السنوات الأخيرة تعددت أدوات ووسائل هذه المؤسسة في عمليتي الاختراق والتدجين، خاصة بين النساء والشباب والقيادات الشبابية والنسائية مستعينة بعديد المؤسسات الدولية اليهودية الفاعلة في تحقيق عملية التدجين، فضلا عن مؤسسات رسمية حكومية. وهذا الاختراق ستكون تداعياته هائلة على عموم المجتمع في العشريات الثلاثة القادمة بعدئذ يسيطرون على المشهدين السياسي والاجتماعي.

المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني يعيش منذ النكبة وإلى هذه اللحظات حالة من التدافع العام، ولم يحقق حتى هذه اللحظات شرطي الارتقاء بهذا التدافع ليصل إلى مرحلتي التدافع المقرون بالمغالبة والتدافع المقرون بالمواجهة مع المؤسسة الإسرائيلية وكلاهما مدني بامتياز باعتبار المواطنة المنقوصة ومغالبة المؤسسة المجتمع الفلسطيني بسيل من القوانين العاملة على تقليم أظافره.

الشرطان المطلوبان هما الوحدة بحدها الجامع بين مكوناته السياسية الجامعة التي يرافقها مراجعات للعمل السياسي تفضي الى اختيار افضل الوسائل لتحقيق كسوبات تصب في مصلحة هذا المجتمع وشرط الحماية بمفاهيمها الشرعية والأخلاقية والاجتماعية والمجتمعية، وأخيرا السياسية، ومن قبل فطن علماء المغرب العربي إلى أنّ الحماية شرطُّ من شروط التحرر من الاحتلال الفرنسي ومن الفرانكفونية إذ لا خلاص إلا بحماية فكرية وعملية للأفراد في المجتمع ومن محاسن الأحوال أنّ أدوات التواصل اليوم تختصر المسافات المكانية والزمانية مما يجعلها أداة أساس لتحقيق هذا الشرط.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى