أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

معركة الوعي (93): القصاص الشرعي كوسيلة للجْم الجريمة

حامد اغبارية

بداية علينا التفريق بين مصطلح “الإعدام” المطلق، وبين “القصاص” الذي ينص عليه الإسلام. ذلك أن الخلط بين المصطلحين قد يؤدي إلى سوء فهم المغزى المطلوب من طرح قضية تنفيذ القصاص العادل بكل من يرتكب جريمة قتل متعمدا، كما يحدث في شوارعنا التي تشهد يوميا تقريبا جريمة قتل أو أكثر في أجواء من الرعب والترويع.

ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى رادع قوي يوقف هذا النزيف الذي لا يتوقف. وليس هناك أقوى ولا أنجع من عقوبة القصاص كما نصّت عليه الشريعة الإسلامية، التي أرست قاعدة متينة تتأكد فيها “الحياة” من خلال القصاص، وذلك في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179). وهذا يختلف كثيرا عن عقوبة الإعدام التي تمارسها الدول المعاصرة اليوم من خلال قوانينها الوضعية. وهي عقوبة تستخدمها تلك الأنظمة للتخلص- في الأغلب- من خصومها السياسيين أو المعارضين، أو تطبقها على الخونة والجواسيس وما شابه ذلك. ولذلك فإن عقوبة الإعدام يراها كثيرون من الحكام والسياسيين، وحتى الخبراء غير رادعة بما يكفي، ولهذا عمدت دول كثيرة إلى إلغاء هذه الأحكام أو تجميدها واستبدالها بالسجن المؤبد مدى الحياة، مستجيبة في ذلك إلى انتهاج ما يسمى بمنظومة حقوق الإنسان والمجتمع الدولي سياسة مناهضة الإعدام باعتباره سلوكا غير إنساني، أو يمس بما يسمونه “حقوق الإنسان”!! ولعلّ أسوأ ما في هذا الأمر أن إلغاء الإعدام جاء بزعم أنه حفاظ على حياة الإنسان، دون الالتفات إلى أن هذا الإنسان الذي يريدون الحفاظ على حياته انتهك حق آخرين في الحياة وسلبهم إياها. هذا ناهيك على أن إلغاء هذه العقوبة قد يقف خلفها إدراك تلك المنظومات الدولية أن السائد في مختلف دول العالم هو الظلم وتلفيق التهم للأبرياء، والتغاضي عن القاتل الحقيقي في كثير من الحالات لأسباب كثيرة تتحكم فيها الطبقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهذا في حقيقته يختلف كليا عن عقوبة القصاص كما ينص عليها الإسلام. فالقصاص في الإسلام إنما جاء كعقاب إلهي وليس عقابا بشريا يمكن التلاعب فيه أو تجييره أو تغيير مضامينه أو تحريفها. وهو وُجد أساسا لرد الاعتبار للمتضررين من القتل، وهم أهل القتيل وأولياؤه، وعقابٌ للقاتل الذي اعتدى على روح بشرية بغير وجه حق، وفي التالي غير وارد في شريعة الإسلام تعطيل هذا الحكم أو تخفيفه بدوافع أو دواع إنسانية، فإن الله تعالى قد جعل للنفس البشرية حرمة أعظم من حرمة الكعبة، وفي التالي هي ذات قدسية ولا يجوز إزهاقها، ومن يخالف هذا ويتجاوزه ويقتل نفسا بريئة بغير نفس فإنه يستحق عقوبة القصاص لا محالة.

ولو أنك تأملت الآية {ولكم في القصاص حياة…}. ففي القصاص العادل حياة، هكذا دون حصر بألـ التعريف، وهذا فيه ترسيخ لمبدأ العدالة الكاملة التي من خلالها تستقيم حياة الناس ويستقر المجتمع، ويسود الأمن والأمان، وتطمئن النفوس، فلا يشعر أحد بالظلم، ولا تبحث نفس المظلوم عن الانتقام الثأري الذي يسود بيننا اليوم بصورة أسوأ مما كانت عليه الجاهلية الأولى. ومعنى “حياة” في الآية أن تنفيذ القصاص بالقاتل أو القتلة يشكل رادعا عن ارتكاب جرائم القتل، كما أنه رادع لفوضى الانتقام وقتل أبرياء لمجرد أن لهم علاقة بالقاتل ولو من بعيد أو حتى بالشُّبهة. إذ لو علم القاتل أن مصيره الموت قصاصا لا محالة لارتدع عن القتل، ولو اطمأن أهل القتيل إلى أن حقهم يضمنه الشرع فإنهم لن يفكّروا في الانتقام أو تنفيذ القصاص بأنفسهم. وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلْطَٰنًا فَلَا يُسْرِف فِّى ٱلْقَتْلِ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورًا} (الإسراء: 33). فوليّ القتيل مأمور ألا يُسرف في القتل شمالا ويمينا وكيفما اتفق أخذا لحقه من قاتل قريبه، وهو منصور حتما بالشرع الذي يتضمن القصاص العادل الذي ينزله الحاكم على القاتل. ولتحقيق البُعد الإنساني الذي يتغنى به “المجتمع الدولي” فقد شُرع لوليّ القتيل أن يعفو عن القاتل {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 178)، وهذا أرقى ما يمكن أن تصل إليه النفس البشرية، دون إلغاء حكم القصاص.

وهذا تحديدا ما يجب أن يطالب به مجتمعنا اليوم. فإن الجريمة قد تجاوزت كلّ حد، وليس في قانون السلطة الإسرائيلية ما يردع المجرم عن ارتكاب جريمته، بل إن قانون العقوبات الإسرائيلي مليء بالثقوب والعورات والفجوات التي يستطيع من خلالها القاتل أن ينجو من العقوبة، التي هي مخففة أصلا، أو على الأقل يحصل على حكم مخفف لبضع سنوات. وهذا قانون في أساسه هش، وفيه ظُلم كبير، بل إنه يشكل – بنظرة واقعية- سببا من أسباب انتشار الجريمة واستسهال القتل وحمل السلاح والاعتداء على أرواح الناس وحرماتهم.

أعلمُ جيدا أن السعي إلى تطبيق القصاص العادل في مجتمعنا كما ينص عليه الإسلام، هو طموح بعيد المنال في ظل مؤسسة إسرائيلية كل ما فيها أصلا محاربٌ للإسلام وما يدعو إليه. ولكن الحق يجب أن يقال، وإذا كان هذا مجرد طموح اليوم أو حلم أو ربما يسميه بعض المتفلسفين أضغاث أحلام أو هذيانا، فإنه بالنسبة لنا هدف لو قيل لنا إنه سيبقى حبرا على ورق حتى يرث الله الأرض ومن عليها لما توقفنا عن الدعوة إلى تحقيقه.

لقد وصلنا إلى مرحلة لا يمكن حيالها الوقوف متفرجين أو صامتين. فالقتل والعنف بكل أشكاله، سواء من قبل عصابات الإجرام أو داخل العائلة الواحدة أو بين العائلات أو بين الأزواج أو الأفراد، وأيًّا تعددت أسبابه ودوافعه، يحتاج إلى حل جذري يقتلعه من جذوره ويجتثه اجتثاثا، وهذا لا يمكن أن يتحقق بالأدوات والوسائل التي يخدعوننا بها الآن، خاصة وأننا نعلم أن الذي نشكو إليه ما يصيبنا هو سبب من أسبابه، ومن ثمّ فإنه جزء من المشكلة، إن لم يكن هو المشكلة كلها، ولا يمكن أن يكون الحلّ بيده.

وأخشى ما أخشاه أننا في طريقنا للوصول إلى نقطة اللاعودة. فالساحة يسيطر عليه الآن الزعران والبلطجية والعصابات على اختلاف أشكالهم وألوانهم، ولا يليق بمجتمع يطمح إلى الانعتاق من ظلم سياسات السلطة الإسرائيلية أن يقف متفرجا ويترك الساحة لهؤلاء الفاسدين المفسدين يعيثون في حياتنا خرابا وتدميرا وقتلا وترويعا. لا يجوز شرعا، ولا عقلا ولا منطقا ولا هوية ولا انتماء أن يكون هكذا حالنا، نعيش عيش الجبناء نأكل ونشرب كما تأكل الأنعام وتشرب، وكأن ما يجري حولنا وأمامنا وبالقرب مكنا لا يعنينا طالما أنه لم يصل إلينا.

أيها الناس: إن مجتمعنا يغرق في الدماء، ونحن نغرق معه. ولن ينقذنا من الموت غرقًا أو الموت موت الجبناء إلا أن نتكاتف ونقف صفا واحدا متراصًّا في وجه هذا البلاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى