أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (89): المشهد السياسي في الداخل عجزٌ وفشل متراكم وعبثية اللعب في الملعب الإسرائيلي

حامد اغبارية

لم تشهد الخارطة السياسية لدى فلسطينيي الداخل وضعا أسوأ مما هي عليه اليوم، فقد اختلطت أوراقها، والبوصلةُ المنحرفة أصلا، ازدادت انحرافا، وبات بساط الثقة المهزوزة بالفاعلين السياسيين من أحزاب وأطر وتيارات ينحسر تحت أقدامهم، بعد أن اتضح، لمن كان لديه ذرة شك، أن اللعب داخل ملعب السياسة الإسرائيلي، ليس محدود الضمان وحسب وإنما لا ضمان فيه، ونتائجه كارثية و”إنجازاته” صفرية.

نحن الآن أمام مشهد عبثي يميز هذه الخارطة السياسية. فمن جهة تزعم الأطر السياسية أنها تعمل داخل دائرة العمل الوطني؛ هذا المصطلح المطاطي الذي بات كل من شاء يفصله على مقاسه، ومن جهة ثانية تجد هذه الأطر تمارس العمل السياسي بشروط وضوابط وأدوات اللعبة الإسرائيلية ولا يمكنها تجاوزها. هذه قمة التناقض. لكن للأسف فإن تلك الأطر “أبدعت” العيش داخل هذا التناقض حتى بدا الأمر وكأنه هذا هو الأمر الطبيعي وأن غيره شذوذ سياسي لا يصلح ولا يجدر التعاطي معه.

من الواضح، فَهْمًا ووعيًا وتجربة وممارسة وقراءة للتاريخ، أن التأثير السياسي للأحزاب العربية التي قبلت ممارسة اللعبة داخل الملعب الصهيوني محدودٌ جدا، إن لم يكن مفقودا البتة. فكل النشاط يدور في ذات الدوائر المُفرغة التي تتعلق بالحقوق المدنية واليومية لفلسطينيي الداخل، وأصبح الحديث عن مستقبل فلسطينيي الداخل ليس كونهم جزءا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وأن مصيرهم مرتبط بمصير الكل الفلسطيني، وإنما بصفتهم مواطنين إسرائيليين، ومشكلة هؤلاء المواطنين الوحيدة أنهم يعانون فقط من التمييز بصفتهم أقلية من قومية مختلفة. وهذه مصيبة على كل المستويات!

ولنحاول أن نتخيل أن الأطر السياسية العربية في الداخل انتهجت نهجا مغايرًا يتبنى رفض السقوط في فخ سياسة التدجين الصهيونية، كيف كنتَ سترى المشهد السياسي؟ بالتأكيد ستكون الخارطة مختلفة وتأثيرها أكبر وإنجازاتها أضخم، وهي أصلا ستكون إنجازات حقيقية وليست مجرد أوهام تسوّقها فئات لتوزيع الفتات وتصويره للجمهور أنه إنجاز تاريخي، وكأن مشكلة الفلسطيني في الداخل هي الأكل والشرب والوظيفة والزواج وتحصيل الميزانيات وتحسين مستوى المعيشة. فهذا مع أهميته وعدم الإنقاص من ضروراته إلا أنه يبقى في الأساس تحصيل حاصل لا يحتاج في الدول الحقيقية إلى كل هذا الدجل السياسي. والأهم من ذلك أن الأطر السياسية التي قبلت على نفسها الدوران في دوامة السياسة الصهيونية لم تحقق، حتى في هذا المسألة، شيئا ذا قيمة على مدار سبعة عقود. والأصل أن الشعوب الحية وقياداتها المسؤولة تتوقف عند محطات معينة من حياتها وتدرس حالتها وما حققته وما لم تحققه، ثم تعيد دراسة خطواتها وتعيد ترتيب أوراقها السياسية وتعيد النظر في سلوكها السياسي، لكن الأحزاب في الداخل لم تفعل من ذلك شيئا، ولو مرة واحدة، وتراها سادرة في غرقها في أتون السياسة الإسرائيلية حتى وصلنا مرحلة أصبحت فيها التوصية على مجرمي الحرب لتشكيل الحكومة، كما فعلت القائمة المشتركة مع جانتس، عملا وطنيا، وأصبحت المشاركة في الائتلاف الحكومي الصهيونية من الأعمال المحمودة التي تخدم الهدف الوطني، كما فعلت القائمة الموحدة.

عمل وطني؟؟؟ أنت أيضا تسمع أعضاء عربا في أحزاب صهيونية فاشية يلوحون بهذا المصطلح كي يبرروا سقوطهم. فما الفرق؟؟ ومن الذي يملك الحق في تحديد ما هو وطني وما هو غير وطني، وما هو خنجر في خاصرة العمل الوطني؟ لا بد من تحديد لهذه المسألة في إطارها الصحيح، حتى لا تبقى نهبا لكل متردية ونطيحة. ومن المفروغ منه أن الأحزاب ليست هي الجهة التي لها الحق في هذا التأصيل.

في تصوري أن الانحدار السريع في العمل السياسي في الداخل بدأ مع حظر الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح عام 2015. كان حظر الحركة يشكل للساحة السياسية فرصة لتغيير اتجاه البوصلة وتلقين المؤسسة الإسرائيلية درسا ليس فقط في الوعي السياسي وإنما في ممارسته على أرض الواقع. كان يمكن أن تتشكل عندئذ قوة سياسية مختلفة تماما، تعمل خارج إطار الملعب السياسي الإسرائيلي. لكن الأحزاب ضيّعت الفرصة بغباء سياسي غير مسبوق. وربما بغباء عن سبق إصرار.

ومن المهم أن نذكر هنا أن تغييب الحركة الإسلامية (الجناح الشمالي) عن الساحة كإطار فاعل أفقد الخارطة السياسية في الداخل الكثير من بريقها ومن قوتها ومن عنفوانها. فالحركة الإسلامية (الشمالية) كونها كانت التيار الأكبر جماهيريا وتأثيرا وسلوكا كانت أشبه ما تكون بملكة النحل داخل الخلية، وكانت إلى حد كبير تملك قدرة ذات شأن وثقل على ضبط السلوك السياسي العام في الداخل. وللحقيقة والتاريخ فإن الجهات التي ربما فرحت لحظر الحركة، لأن الحظر أزاح من أمامها قوة منافسة ذات وزن، قد خسرت الكثير من غياب الحركة. وهذا نلمسه اليوم في ارتباك المشهد السياسي الذي بات يسير خبط عشواء، حتى على مستوى الأداء الميداني الجماهيري، وليس فقط على مستوى الأداء السياسي. وفي تصوري أن القادم سيكون أسوأ بكثير.

ولعله من المهم أن ننبّه هنا إلى أن هذه الحالة غير منفصلة في سوئها عن الحالة الفلسطينية العامة. فلولا “أوسلو” وتبعاتها وتداعياتها لكان الوضع على غير ما نعيشه اليوم. وفي هذا تفصيلات كثيرة ربما يضيق المكان لذكرها، لكن المسألة مفهومة لمن شاء أن يفهم.

وفي التالي يأتي السؤال حول حجم تأثير الداخل الفلسطيني أو بالأحرى الأحزاب في الحياة السياسية؟

هذا مرتبط مباشرة بالحالة التي أشرتُ إليها. فالتأثير السياسي يتحقق مع وجود القوة السياسية. فإذا فُقدت القوة فُقد التأثير. وحقيقة الحالة أن التأثير السياسي مفقود عمليا إذا اعتبرنا أن الأطر السياسية الموجودة حاليا هي التي يفترض فيها التأثير. والسؤال: ما هو التأثير السياسي المطلوب؟ وتأثير سياسي على مَن؟ ولصالح مَن؟ لنفترض أن التأثير السياسي المطلوب هو على المنظومة السياسية الإسرائيلية. فأين يمكننا أن نرى هذا التأثير؟ ما هي آثاره وعلاماته؟

هل هو مثلا على توسيع الاستيطان؟ أم على استهداف المسجد الأقصى؟ أم على استهداف حي سلوان والشيخ جراح وسائر أحياء القدس؟ أم على معالجة قضية العنف في الداخل؟ أم على مستوى مستقبل قضية الصراع على فلسطين؟ أم على سياسة هدم البيوت؟ أم على سياسة توسيع الخرائط الهيكلية للمدن والقرى الفلسطينية في الداخل؟ أم على مضامين منهاج التعليم في المدارس العربية؟ أم على نبش قبور مقبرة اليوسفية؟ أم على سياسة تكميم الأفواه وقمع حرية الرأي والتعبير وملاحقة القيادات وسجنها؟ إن هذا التأثير لا نرى له أثرا حتى في لقمة الخبز.

التأثير الحقيقي في الحياة السياسية هو الـتأثير الجماهيري وليس من خلال المشاركة في لعبة الكنيست. فإن أكبر عملية خداع وأكبر فشل ذاتي مُني به الداخل الفلسطيني هو المشاركة في مستنقع الكنيست الصهيوني. وكل ما يأتي من هذا الباب مجرد أوهام ودجل سياسي. وهذا ليس شعارا ولا تعبيرا عاطفيا بل له أدلته على أرض الواقع. سبعة عقود من ممارسة اللعب السياسي في الملعب الإسرائيلي يُفترض أنها أكثر من كافية لتحقيق شيء ما. فلماذا ما يزال وضعنا مكانك سر، بل خلفا دُر؟ لماذا يزداد القمع والتضييق وتكميم الأفواه والملاحقة والحظر وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وتدمير الأسرة والمجتمع الفلسطيني في الداخل، وتدمير جهاز التعليم، والعنف وسفك الدماء وسيطرة العالم السفلي وعصابات الإجرام على الحيز العام، وإخراج قضية الشعب الفلسطيني من الحيز العام، وازدياد وتيرة الاعتداءات على المقدسات وتهجير الناس من بيوتهم والاستيلاء عليها في القدس وغيرها، والقائمة طويلة لا تنتهي؟؟؟

الشارع هو الذي يملك التأثير السياسي الوحيد في حالتنا. بمعنى أن ممارسة العمل السياسي خارج الملعب الإسرائيلي هو الضمان الوحيد لتحقيق نتائج ذات تأثير. هذا لمسناه مثلا في معركة البوابات الإلكترونية في الأقصى عام 2017. ولمسناه في هبة الكرامة في أيار (رمضان) الماضي، ولمسناه قبل ذلك في هبة القدس والأقصى عام 2000. بل إن اللاعبين في الملعب السياسي الإسرائيلي، عندما يُسقط في أيديهم في كل مرة، يلجأون إلى الشارع، إلى الجمهور ليقول كلمته.

قد يأتي الآن من يقول: وماذا تقول في وجود القائمة الموحدة في الائتلاف؟ أليس لها تأثير على سياسة حكومة نينيت؟ ألا تسمع ما يقوله الإعلام العبري؟ إنهم حتى يقولون إن رئيس الحكومة الحقيقي هو منصور عباس لأن بيده أن يسقط الحكومة إذا أراد؟

والجواب: هذا تضليل إعلامي ودجل سياسي غير مسبوق. لا يوجد للقائمة الموحدة أي تأثير على سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية. هذا مجرد وهم، والدليل: الحكومة تصنع ما تشاء في الضفة والقدس وفي الداخل. والقائمة الموحدة دخلت لا لتخرج بل لتبقى، لأن خروجها يعني نهايتها جماهيريا، وهي تريد أن تثبت للجمهور أنها حققت ما وعدت به. وطبعا هي لن تحقق شيئا ذا قيمة. لن تحقق أكثر مما تريد المؤسسة الإسرائيلية إعطاءه. وهذا هو نهج الحكومات الإسرائيلية منذ 1948، وهي يمكن أن تعطيه – إذا شاءت وحسب ما تقتضيه مصلحتها- دون وساطة من الموحدة أو من غيرها. وهذه في الحقيقة ورطة سياسية لا مخرج منها إلا بالتوبة النصوح.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى