أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

بأخلاقك…  لا بأخلاقهم

ليلى غليون

التسامح، العفو، التغاضي، التغافل، أن تفتح عينا وتغمض الأخرى عن زلات الغير، كل هذه التشكيلة الرائعة تنسج من خيوطها فسيفساء من القيم التي تسمو بالنفس وتترفع بها عن الدنايا وتجنبها لوثات الحياة وما أكثرها، قيم أوصانا بها إسلامنا العظيم وتربينا عليها وزرعها فينا آباؤنا وأمهاتنا أبناء ذلك الزمن الأصيل، يوم كان للحياة طعم ولون آخر، طعم يفوح برائحة الأصالة ولون يفوق الزهر بجماله.

فكم مريحة على النفس هذه القيم الراقية، تصفو بها نفوسنا وتُزكى بها قلوبنا وتُنقى بها أرواحنا من الشوائب التي تلتصق بها في متاهات الطريق، لتستقر على إثر ذلك حياتنا وتسلم مجتمعاتنا فلا حقد ولا قلق ولا كراهية ولا منغصات.

قيم هي في الحقيقة جسور متينة لعلاقات طيبة بين الناس، مشيدة بالمحبة وطيب العشرة نكاد نفتقدها في زخم الحاضر، وتكاد دعائمها تنهار في فوضى هذا الزمن الأغبر.

نعم، كم هي عظيمة هذه المبادئ وكم هي جميلة هذه القيم، وكم هم عظماء حملة رايتها والمستمسكون بها وإن كانوا في هذا الزمان قلة مبعثرين هنا وهناك، إلا أن مخالطة الناس والاحتكاك بهم- ولا بد من مخالطة الناس لأن ذلك هو الأصل- ربما يعرض هذه القيم للانتهاك أو الاهتزاز، وصاحب هذه القيم سيتعرض شاء أم أبى لامتحانات صعبة يثبت فيها صلابة مبادئه.     فقد يجرحه سفيه أو يحرجه جاهل، والأذى ترفضه النفس البشرية ولا تطيقه، ولكنه رغم ذلك ينتصر على هذه النفس ويترفع عن هذه الأذية ولا يقبل أن يكون مجرد ردة فعل يقابل الإساءة بالإساءة، فما أسهل أن يرد الشتيمة بالشتيمة وما أسهل أن يرد كلمة السوء بعشر مثلها فليس بعاجز عن ذلك، إلا أنه آثر أن يدفع فاتورة باهظة الثمن من أعصابه وطاقة احتماله ولا يتخلى عن صفاته وطبعه ليظل ثابتا على موقفه فلا ينحدر إلى السفح، لأنه موقن في قرارة نفسه بضرورة أن يكون مختلفا عن غيره في أخلاقه في سلوكياته متميزا في ردة فعله، يتعامل بأخلاقه لا بأخلاق من أساء إليه، وإلا أصبح نسخة منه، هكذا تربى وهكذا علمه الإسلام. يقول العقاد: “إذا عاملت من أساء إليك بالمثل فقد اجتمعت بك عيوب الناس كلها”، وليس المقصود هنا أن تطأطئ رأسك ضعفا أو خذلانا أمام من أساء أو أخطأ بحقك، بقدر ما أنه بحكمتك وتعقلك ستحرجه بتعاملك الراقي وردة فعلك غير المتوقعة والتي وربما تكون سببا في تلقينه درسا لن ينساه في حسن السلوك وتجنب الإساءة للغير ورجوعه خطوة للوراء نادما ومحاسبا نفسه على سوء فعله، وحتى لو لم يتراجع فإنك لن تخسر شيئا لأن تعاملك معه بأخلاقك لا بأخلاقه، فلا يعني هذا أنك تنازلت عن حقك، بل يعني ترفعك عن السقوط في الحماقة التي أحدثها هو وأنك تربأ بنفسك من النزول إلى مستواه، والإساءة والحماقة لا تمثل إلا صاحبها. (مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك مواقف تتطلب عدم خفض الجناح والحزم والانتصار للنفس، وتحصيل الحق وهي التي لست أعنيها في معرض هذا الكلام).

فبمجرد انتصارك على نفسك وشعورك بأنك قمت بالعمل الصحيح يطمئن قلبك وتسكن روحك بالإضافة للمنافع الدنيوية وقبلها الأخروية التي ستحصدها، يقول الله عز وجل: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)، (… فليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم…)، (واصبر على ما يقولون وأهجرهم هجرا جميلا).

شتم رجل الأحنف بن قيس التميمي بكلمة، فقال: “يا هذا والله لئن شتمتني بعشر لا تسمع مني واحدة، لست بعاجز، ولكني أقابل سفهك بالحلم”. صحيح أنه ليس بالأمر الهين على النفس أن تقابل الإساءة بالإحسان، فهذا يلزمها أن تدفع من أعصابها وجهدها وصبرها الشيء الكثير لتبقى على تميزها ولا تتزحزح قيد أنملة عن مبادئها، ولكن هذه الفاتورة ترخص وتسهل عند أصحاب النفوس الكبيرة الذين لا يسمحون لسفيه أو جاهل أن يغير أجمل ما فيهم وهو الحلم وحسن الخلق ويشوه الخير الذي يسكن فيهم، خاصة وهم يستبشرون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: “عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم والقائم”.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “درجة الحلم، والصبر على الأذى، والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، يبلغ الرجل بهما ما لا يبلغه بالصيام والقيام”.

فالحصاد وفير والخير جزيل ولو كانت التكلفة تتطلب جهدا نفسيا وسعة صدر وصبرا على الأذى، خاصة عندما نتعامل مع أشخاص يرون في العفو عن الإساءة تخاذلا وضعفا، وغض الطرف عن الزلل مذلة أو سذاجة، فكم هو مكلف جدا أن تكون أصيلا في زمن يعج بالزيف والمزيفين، وكم هو مرهق نفسيا أن تكون حليما في زمن كثر فيه الطيش والطائشون، وكم هو موجع جدا أن يُفسر صبرك على الأذى بأنك الحلقة الأضعف، ولو لم تكن كذلك لرددت الصاع صاعين، ولكن سمو روحك بالإعراض عن هذه الفئة من البشر، وجمال حياتك وروعتها بالمحافظة على الكنوز التي تربيت عليها فلا ينفلت منك الزمام بلحظة تهور، والأجمل من ذلك أنك صاحب الامتياز تتعامل معهم بأخلاقك لا بأخلاقهم، ثابت على مبادئك ولا تتخلى عنها كردة فعل لإساءتهم لأنك ببساطة لا تريد أن ستخسر نفسك وتكون مثلهم، فيكونون بذلك قد تسببوا في إيذائك مرتين، مرة بجهلهم عليك وأخرى بجرهم إياك للنزول لمستواهم.

في هذا الزمان الذي تعالت فيه أصوات الجاهلين، وملأت الدنيا صخبا وإيذاءً، اجعل من يخالطونك يرون فيك مرآة شفافة تعكس أصالة الإسلام وجماله وخلقه، اجعلهم يرون الدنيا لا زالت بخير لأن فيها أمثالك ممن قال الله تعالى فيهم: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)، اجعلهم يدعون لمن ربوك وزرعوا فيك هذه المحاسن فترزق أجر برهم من حيث لا تحتسب، فليس من السهل بمكان أن تكون أصيلا في زمن غابت فيه شمس الأصالة، فكن ذاك الاصيل ولو كنت وحدك في هذا الطريق.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى