أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

قبل أن تلدغنا الأفعى

ليلى غليون

جلس الرجل يستريح تحت شجرة وارفة الظلال، بجانبها ينبوع ماء عذب، بعد أن أنهكه السير في إحدى الرحلات، وبينما هو مستمتع بتلك اللحظة الهانئة التي استسلم فيها للنوم والراحة، وإذ بسرب من الذباب يقترب منه ويعكر عليه صفو راحته بطنينه المدوي، فتارة تحط ذبابة متطفلة على خده، وأخرى على أنفه، وثالثة على أذنه، لينتفض ويستيقظ من نومه وشرارة الغضب تشتعل في وجهه على هذا الذباب المزعج الذي قطع عليه هدأة نومه وسلبه تلك اللحظات من الراحة والسكينة، فأخذ يهشه تارة بيديه وتارة بقطعة قماش صغيرة كانت بحوزته، وبينما هو كذلك سمع صوت فحيح أفعى يقترب منه شيئا فشيئا، إلا أنه لم يعره اهتماما وظل على حاله تلك مشغولا بإبعاد الذباب عنه، ولا تزال الافعى تقترب منه وتقترب ولا يزال هو منشغلا بهش الذباب عنه حتى لدغته لدغة ما لها من فواق ليلقى حتفه متأثرا بتلك اللدغة.

إن هذا الرجل قد يكون أنا، أو أنت أو هو أو هي أو نحن جميعا حين تستحوذ أمور- نعم هي مهمة- على اهتمامنا وتفكيرنا وأوقاتنا فنسعى جاهدين لمواجهتها ومعالجتها واستئصالها منشغلين بها عن أولويات هي في غاية الأهمية والخطورة، ربما هي الغفلة، ربما هو النسيان أو هو الإهمال أو عدم قدرتنا على ترتيب الأولويات، أفقدنا الشعور بها رغم كل الأضواء الحمراء المشتعلة تنذر وتحذر من خطورتها.

وليس أدلّ على ذلك ما نحن فيه في هذه الأيام وقد قضّ مضجعنا وأشغل بالنا وأربك حياتنا وعلى كل المستويات فيروس كورونا العابر للدول والقارات بدون تأشيرة ولا جواز سفر والذي خربط أوراق العالم بأسره، متخذين كل أسباب الحماية والوقاية خوفا وحرصا من الإصابة به، ولا بأس في ذلك، بينما اهتمامنا واجتهادنا متواضع إزاء ذاك الثعبان المخيف الذي مُلئت أنيابه بسم الانحلال والفساد والانهيار الاخلاقي الذي يزحف نحو هذا الجيل ويلتف حول عنقه ويكبل إرادته ويكاد ينقض عليه من كل جانب.

نرى الأم (وكذلك الأب) تحرص أشدّ الحرص على طفلها حتى من النسيم في اعتلاله خوفًا من أن يصاب بنوبة برد، تحرص على تغذيته الجسدية، مهملة تغذيته الروحية، توفر له كل أسباب الرفاهية، حتى ملابسه وأحذيته فقط من الشبكات والماركات العالمية، تكاد تصاب بالجنون إن لم تكن علاماته المدرسية عالية تباهي بها صاحباتها وقريباتها بل تضع شهادته على صفحتها على الفيسبوك ليراها الجميع وتفاخر بها، بينما قد تغفل عن ذاك الثعبان الذي يلهو به طفلها (الاجهزة الالكترونية) يحتضنه بين يديه، يقضي معه الأوقات الطويلة، يعلمه دروسا بالمجان، دروسا في فن العنف والجريمة، دروسا في السلوك المنحرف، دروسا في الاباحية، دروسا في فن التفاهة والحماقة. كيف لا!؟ والعالم كله بين يديه ويكفي ضغطة خفيفة على هذا الثعبان ليبث له من السموم على أنواعها ما يشيب له الولدان.

بل أكثر من ذلك، فإن معظم الأمهات وربما الآباء، يشترون لأبنائهم هذه الثعابين برضاهم لإلهائهم وللتخلص منهم ومن مشاغباتهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وقد يصاب أحدنا بصداع خفيف فينزعج وينشغل بالبحث عن عقاقير مسكنة لهذا الصداع أو ربما المسكنات حاضرة عنده لحين الطلب، بينما وصلت عنده الدهون والسكر إلى نسبة تهدد سلامته وصحته وهو لا يدري وربما يدري ولكنه يتغافل ويتجاهل ولا يعر للأمر اهتماما، لتمر به الأيام على هذه الحال، حتى إذا تدهورت صحته وداهمته الأمراض استيقظ من غفلته وأخذ يضرب كفا بكف على إهماله بصحته وكيف أنه لم ينتبه لإشارات المرض إلا بعد فوات الأوان وبعد أن أكل المرض من جسده حتى شبع وأصبح من الصعوبة بمكان معالجته.

والأمثلة كثيرة والمجال لا يتسع لسردها، ولكن لا يمكن أن ننكر أن فوضى عارمة تجتاح الكثير منا إلا من رحم الله، وذلك بسبب الغفلة أو التغافل عن أهمية الأولويات في حياتنا، الأمر الذي جعلنا نتعامل معها على أنها أمور لا تختلف عن غيرها، انشغلنا بالمهم عن الأهم، بالأمور الصغيرة عن الكبيرة، بل وصل اهتمامنا بالسطحيات والشكليات والوجاهة الاجتماعية إلى حدّ أخذ من أوقاتنا واهتمامنا وصحتنا الشيء الكثير، فلم نعد نفرق بين الأشياء المهمة والأشياء الأكثر أهمية فجميعها في نظر الفوضى سواء، بينما نسينا أولوياتنا التي هي من أولى واجباتنا التي يجب أن تنصب عليها جهودنا ونمنحها جلّ طاقاتنا وتركيزنا حتى نتمكن من جمع ولمّ شتاتنا وبعثرتنا ونخلع عنا لباس الفوضى قبل أن نعض أصابع الندم وقبل أن تقع الفأس بالرأس، وقبل أن تلدغنا الأفعى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى