أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

في الزمن غير الأصيل كل شيء، عادي جدا

ليلى غليون

قد تدفعك الرغبة للجلوس لوحدك بين جدران نفسك في محاولة منك صعبة للبحث عن الراحة والهدوء، أو ربما هروبا من ضجيج الحياة وصخبها الذي يدق على مسامعك أو يكاد يسحق أعصابك، يراودك حديث نفس، يلح عليك للهمس به وأحيانا للصراخ بأعلى صوتك، وقد ضاق صدرك، وملأت الحسرة قلبك على سوء المآل الذي وصل إليه هذا الحال، وأحاطت بك أسوار خيبة الأمل وأنت عبثا تبحث عن مفقودك، فلا تجد غير صدى تنهداتك وهمسات أنينك وقد تلاشت في لحظة الصخب، وربما يمزق ستائر سكونك وخلوتك مع نفسك كلمات نابية تفوّه بها أطفالك وهم يتشاجرون أو يصرخون مع أصحابهم وهم يلعبون معهم في ذاك العالم الافتراضي، أو ربما قطع هدأة سكونك والذي بالكاد غنمته، طلقات نارية أطلقها أحدهم يشعرك للتو وكأن معركة تدار حولك، فالتداول بالرصاص أصبح أكثر من شيء عادي، وسمة لأفراحنا وغضبنا ومشاجراتنا ومغامراتنا ومفاخراتنا وعبثنا، أو ربما لاستعراض عضلاتنا وبطولاتنا، والمصيبة الكبرى أننا نستعرض عضلاتنا وبطولاتنا على بعضنا!

لينتصب أمامك السؤال الصعب بل السؤال الملح: متى نتغير؟ نعم متى نتغير؟

لقد ملأنا الدنيا ضجيجا وصخبا ونحن نتحدث عن الوضع المتردي الذي وصلت إليه مجتمعاتنا وعلى كافة الأصعدة، وسطرناها صفحات ومطبوعات ومواعظ وخطبا ودروسا لا تعد ولا تحصى عن ضرورة التغيير وكيفية التغيير للخروج من هذا النفق المرعب، وكم وكم استشهدنا بالآية الكريمة: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)… فلماذا لا نتغير، نعم لماذا لا نتغير؟ وأين تكمن المشكلة؟

إنها كلمة بل سيمفونية علقت على ألسنتنا بتنا نتداولها وكأننا وجدنا فيها مخرجا جميلا ينقذنا من السؤال المحرج: “لماذا لا نتغير” لتكون الإجابة الفورية: “عادي جدا”، لتصبح هذه الإجابة وكأنها الشماعة التي نعلق عليها عجزنا عن التغيير، لتعكس صورة كئيبة لحال ألفناه وتعودنا وتطبعنا عليه وأصبحنا نرى فيه كل شيء “عادي جدا” فترانا نغضب، نستنكر، نرفض إفرازات هذا الواقع، نعيب هذا الزمان، ثم لا نلبث إلا أن نقول: “عادي جدا”، فالحابل اختلط بالنابل والطالع بالنازل، ونقول: “عادي جدا”، نرى الطفل الصغير يشتم أخاه وربما أمه وأباه ونقول: “عادي جدا”، وفي أحسن الحالات نمتعض ونقول: “أولاد آخر زمن”.

نرى الشخص يلقي من سيارته علبة عصير فارغة أو علبة سجائر أو منديلا ورقيا استعمله للتو، ليصبح هذا المنظر الكئيب المتكرر يوميا عاديا جدا في نظرنا!

نرى بناتنا متبرجات وقد حشرن أجسامهن في أزياء تكاد تصرخ من شدة الالتصاق بها، يستنكر بعضنا هذه المناظر ويشمئز منها آخرون، ولكننا نعود ونستسلم للأمر الواقع ونقول: عادي جدا…خليهن يتمتعن بشبابهن!

نرى أكوام القمامة ملقاة على جوانب الشوارع والمتنزهات والأماكن العامة وكل من يريد أن يتخلص من أثاث قديم أو ملابس قديمة يلقيها على جانبي الطريق حتى تحولت معظم شوارعنا لحاويات للقمامة، وهذه المناظر الكئيبة أصبحت مألوفة وعادية جدا!

وعادي جدا جدا أن يعدك أحدهم وتذهب أنت إلى الموعد المحدد لتجد نفسك تنتظر وتنتظر ولا أحد يأتي، لتعود أدراجك بدون أن يكلف نفسه حتى بالاعتذار إليك لتضطر أنت أن تتصل به وتسأله عن السبب لتسمع الاجابة العادية جدا: الظرف ما سمح. لقد جد علي أمر ما، والأمر عادي جدا فكلنا عرضة للظروف الطارئة!

نسمع كل يوم، بل كل ساعة، عن جريمة بل جرائم هنا أو هناك تزهق فيها أرواح وتسيل فيها دماء وتُفجع أمهات وتُرمل نساء ويُيتم أطفال وتشرد عائلات ويدفع أبرياء الأثمان الباهظة لجرائم ليس لهم فيها ناقة ولا بعير، حتى غدت الجريمة في مجتمعنا ظاهرة عادية جد اجدا جدا!

ترى قطيعة الأرحام، التعامل بالربا، عقوق الوالدين، الخلافات الأسرية، الخلافات الاجتماعية، نسبة حالات الطلاق الرهيبة، ازدياد حالات فسخ الخطوبة، ولا عجب! فالأمر عادي جدا!

لست من هواة البكاء والرثاء على الأحوال، ولا من أصحاب النظرة التشاؤمية السوداوية والحمد لله، ولكنني في نفس الوقت لا يمكنني أن أضع نظارة سوداء على عيني هروبا من إسقاطات الواقع وتداعياته، ولكنها الحقيقة المرة تصفعنا بقوة وللأسف، لعلها تحرك فينا قوة الدفع، حتى لا نظل مكبلين بسلاسل التعذر ونضحك على أنفسنا ونلتمس لها الأعذار الوهمية ونقول: “عادي جدا”.

فتارة نتعذر بالعجز عن التغيير، وتارة أخرى بهذا العصر المليء بالتحديات، وثالثة بالمؤامرة، تجدنا ماهرين في ممارسة الحيل النفسية للهروب من الواقع وربما للهروب من المسؤولية، وحقيقة الأمر أننا ألفنا هذا الحال وكأننا لا نريد أن نتغير.

إننا نملك كنزا حقيقيا من المبادئ والقيم ونملك من الموروثات الرائعة ما لا يملكها غيرنا ممن سبقونا في ميدان النهضة والتقدم، يكفي أننا من الأمة التي تفضلت على سائر الأمم بالخيرية، ولا ينقصنا العلم ولا المعرفة ولا الكفاءات ولا القدرات ولا الأموال، ولكن ينقصنا الإيمان أولا بالتغيير والإرادة الصلبة والسعي الحثيث الجاد نحو التغيير، وخلع الثوب المخروق والمرقع بعقدة الانهزام الداخلي الذي لبسناه حينا من الدهر، والثقة والإيمان بقدراتنا بالتغيير، عندها سيكون للتغيير طعم ولون آخر لا تقتصر منافعه علينا فقط، بل يسبغ على البشرية جمعاء الخير كل الخير، ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت جورا وفحشا وظلما وفسادا، لعل وعسى أن تعود للأمة صدارتها وخيريتها لتصبح هذه الصدارة وهذه الخيرية هي العادي جدا جدا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى