أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

شبكات التواصل وصناعة التفاهة

ليلى غليون

هل تريد ربحا سريعا وأموالا طائلة بكل سهولة بلا تعب ولا نصب؟ هل تحلم بتحقيق شهرة واسعة على إثرها يتابعك الملايين ويشيرون إليك بالبنان؟ هل تبغي أن تكون في الصدارة وتكتسح ساحة القدوة والتأثير؟ لتحقيق هذه الأهداف فأنت، لست بحاجة لقراءة مكثفة ولا للالتحاق بالجامعات والكليات للحصول على شهادات مرموقة أو خبرات أكاديمية في المجالات المختلفة، كما أنك لست بحاجة إلى إبداع ولا عبقرية ولا أن تكون فيلسوف زمانك، فالمسألة أسهل من ذلك بكثير، فمواقع التواصل الاجتماعي على أنواعها تحقق طموحك وحلمك بكل بساطة ويسر، فكل ما تحتاجه للوصول إلى هذا المبتغى في زمن غزو هذه المواقع، هو أصرخ، أرقص، خالف العادات والتقاليد، قل كلاما غير مفهوم، قدم محتوى غريبا مبتذلا تصدم به الجمهور حتى يتلقفه بكل حماسة، لتتهافت عليك المشاهدات والإعجابات والتعليقات والمشاركات بالملايين من المتابعين، وكلما زادت تفاهة المحتوى الذي تعرضه كلما زادت المتابعة والمشاهدة، بمعنى ستصبح مشهورا فضلا عن الأرباح الطائلة التي ستجنيها في هذه السوق الرائجة بضاعتها.

إن صناعة التفاهة مستشرية في كل المجتمعات العالمية، وثقافة التفاهة غزت حياتنا حتى تكاد تسيطر على كل شيء فيها لتجعل معظم اهتماماتنا تنكب على السطحيات والشكليات والمظاهر الاجتماعية، لتتحول الثقافة إلى سلعة ويسود الفن الهابط الرخيص، والكسب السريع والاستهلاك البذخي، كما أن صنَاع المحتوى التافه قد تصدروا المشهد على منصات التواصل الاجتماعي، واستقطبوا جمهورا غفيرا خاصة جيل الشباب وجيل الطفولة بدون ان يشعروا بالخطر الناجم عن هذه الفتنة الناعمة، والذين ساهموا بشكل كبير في تفشي ظاهرة التفاهة التي أفرزت قاعدة عريضة من تافهين يطلون علينا من كل موقع، وسيطروا على فضائنا العام من خلال دعمهم ومتابعتهم والتفاعل مع كل ما يقدمونه من محتويات رديئة لا تمت للدين ولا للأخلاق ولا للقيم ولا للذوق بأدنى صلة.

لتصبح الرقاصة والمغني والمغنية والممثل والممثلة ولاعب كرة القدم وأراجوزات الترفيه التلفزيوني باستعراضاتهم البلهاء، وبرامجهم السخيفة هم النماذج والقدوات لأبنائنا وبناتنا، وكلما زادت تفاهتهم زادت نجوميتهم، وكلما انحرفت بوصلتهم زادت شهرتهم، فترى المغنيات والممثلات يتسابقن في ميدان التعري أيهن أقدر على إظهار مفاتنها أكثر من غيرها لتحصد شهرة وأموالا أكثر، فكسب مغني أو رقاصة في حفلة واحدة يفوق راتب محاضر في الجامعة أو طبيب أو عالم أو ..، لتركب هذه النماذج الاعتباطية الموجة ويتم تسويقها وتلميعها وتصبح ذات تأثير قوي، تُقَدم على أنها الرموز والمشاهير الذين يحتذى بهم بعد أن كانوا لا شيء في المجتمع أو يقبعون على هامشه، نعم يقدمونهم لأبنائنا ليحولوا عقولهم واهتماماتهم عن القضايا والأمور المهمة والمصيرية، لينشأ بعدها جيل هش مميع فاقد للهوية والشخصية لا يعي شيئا يسهل اقتياده إلى أي جهة يريدونها.

فمقياس النجاح في هذا العالم التافه ليس بمستوى الخبرة والثقافة والشهادات العليا والإبداع والاختراعات، بل بعدد المتابعين والمعجبين والمشاهدين الذين هم سر قوة هذه الصناعة والاكسجين الذي يمدونه لها للبقاء.

لنجد التسابق المحموم والتنافس في سوق التفاهة من قبل نكرات يتسابقون في تقديم محتويات وبرامج ما أنزل الله بها من سلطان، فبمجرد زيارتك لأي منصة من منصات التواصل الاجتماعي تجد مئات بل آلافا من البرامج والمحتويات العبثية التي يترفع عنها ويمجها الذوق السليم، قد أغرقت هذه المواقع، والطامة الكبرى صدمتك بالكم الهائل من التفاعلات والمشاهدات والتي تتعدى الملايين من قبل الجمهور تدعم هذا الابتذال وتشارك في تسويقه دون أن تشعر بالنار التي تلعب بها.

ليلح علينا السؤال التالي: لماذا تجارة التفاهة رائجة بهذا الحجم وبهذا الشكل غير المسبوق؟ وما الذي جعل مثل هذه المحتويات رغم سخافتها تحصد ملايين المشاهدات في وقت قياسي، بينما بالمقابل محتويات هادفة ذات فوائد عظيمة تمر عليها الأسابيع وربما الأشهر بالكاد تصل فيها المشاهدات إلى بضع آلاف أو يزيد قليلا؟ هل لأن التفاهة جذابة لدرجة لا يستطيع مقاومتها الجمهور؟ هل لأن تجارتها سهلة، والنفس الانسانية بطبعها تميل للراحة ولا تريد أن تتعب؟ هل هو الكسب المادي السريع؟ هل هو الفراغ وفقدان الأمان النفسي والاجتماعي وبالتالي الهروب من الواقع إلى هذه المنصات؟ هل هو الغياب أو النقص في المحتويات الهادفة أم هي صناعة مدبرة وأيد خفية أشعلت هذه الفتنة خدمة لمصالحها؟

قد تكون هذه الأسباب كلها وغيرها من الأسباب ساهمت في انتشار هذه الظاهرة، ولكن بلا شك سر نجاحها يكمن بالإقبال الشديد عليها من قبل الجمهور وإدمانهم على متابعتها، والخلل الحقيقي يكمن في هذا الجمهور الذي يشجع ويدعم ويروج لها حتى جعل من التافهين أثرياء ونجوما، ولولا هذا الدعم وهذا التفاعل لم تكن لتقوم لهم قائمة وظلوا يقطنون زوايا المجتمع لا أحد يعلم عنهم شيئا أو على الأقل لاستراح المجتمع منهم ومن عبثهم.

فهل سنفيق من هذا الكابوس المرعب قبل أن يتجه هؤلاء بهذا الجيل نحو الهاوية ويهبطون به في مستنقع الجهل ويغتالون القيم والاخلاق وبالتالي هدم المجتمع؟

يقول الروائي الاسباني كارلوس زافون: (إن العالم لن يفنى بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، بل الابتذال والإفراط في التفاهة سيحول العالم إلى نكتة سخيفة).

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: “سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”.

إن سفينة النجاة التي ستقلنا إلى بر الأمان تكمن بالوعي ثم الوعي، ولا شيء غير الوعي يضيء لنا هذا النفق المظلم لنهتدي للمخرج، وبالوعي سنمتلك درع الحماية ونمتلك الأدوات لمحاربة ومواجهة هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر السلبية التي تسري في جسد مجتمعاتنا كالورم الخبيث.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى