هل يحاول الغرب التراجع عن دور السياسي المهرج؟
عائشة حجار
من الصعب على الدول التي ترفع علم الديمقراطية، أن تسمح بسيطرة لاعبيها السياسيين، أيًّا كانوا، على الإعلام المركزي فيها، فالتمجيد الزائد للقائد أو الزعيم قد يزعزع أحد أساسات هذه الدول، وهي إبقاء الشعب بقدر كافٍ من الوعي لتغيير حاكمهم إن دعت الحاجة أو احتاج أرباب الأموال-وهم السيد الفعلي للسياسي والاعلامي معًا-، الى ذراع سياسية جديدة.
لذلك يمكن وصف العلاقة بين الإعلام والسياسة في هذه الدول بالزواج المدبر، فالطرفان بحاجة بعضهما وكل منهما مضطر للاعتراف بوجود الآخر وأهميته، وللحفاظ على بيتهما فعليهما أن يحافظا على علاقة تتخللها الخلافات ومحاولة كل منهما لتصحيح الآخر. الأهم من كل ذلك، أنّ تقسيم الأدوار كان واضحًا حتى فترة قريبة، كان الإعلام هو من ينقل الرسائل من السياسي، الزعيم، إلى الشعب الذي يسمع كلمات قائده من جهة وتحليل هذه الكلمات من أقلام وأفواه الإعلاميين من جهة أخرى، كان العالم يبدو أوضح وأسهل للفهم مما هو عليه اليوم.
ما الذي حصل خلال العقد الاخير؟ بعد ظهور شبكات التواصل الاجتماعي على أنواعها وخاصة يوتيوب، بدأ السياسيون الغربيون بتفحص وسيلة نقل المعلومات الجديدة واستكشافها كإعلام بديل، وشيئًا فشيئًا باتت الشبكات الاجتماعية هي القناة الرسمية المركزية للحديث مع الشعب، كما باتت قوانينها هي السائدة وأصبحت اللعبة الإعلامية السياسية تحصل في ساحة جديدة لها قوانين مختلفة، فلا مجال لقول نص أطول من 140 حرفًا أو ثلاث دقائق، هو الزمن الأمثل لتسجيل أي مقطع مرئي، كما أن اللغة المصورة باتت مفضلة على اللغة المكتوبة، والكلمات البسيطة على المصطلحات العميقة، كلها قوانين تضطر مرسل الرسالة إلى تبني خطاب سطحي وبسيط قدر الامكان، بالإضافة الى تأجيج المشاعر السلبية للحصول على المشاهدات والإعجاب المطلوب. فعلى الرغم من أن السياسة كانت تحوي أيضًا دور الممثل الذي يقف على المسرح ويحاول اقناع جمهوره برسالته، إلا أنّ الشبكات الاجتماعية جعلته يميل أكثر ليكون ذا دور متطرف لجذب الجمهور قدر الإمكان والبقاء في ذاكرتهم لأطول وقت ممكن. فمثلًا لن يتذكر هذا الجمهور عرض زعيم ما لسياسته المالية كما ستذكر جلوسه أمام الكاميرا ليحذرهم من عرب يصلون بكميات كبيرة للتصويت، وإزالة الستار عن خزائن من الملفات والاقراص (سيديهات) التي أحضرتها أذرع المخابرات الاسرائيلية من إيران.
باختصار فبعد أن فقد أحد أطراف الزواج السياسي الاعلامي قوته بدأ الطرف الآخر بكسر قوانين وضعها هو بنفسه، وتحول كشف الأسرار الدولية من خطيئة وحماقة كبيرة الى جزء من عرض عضلات لرئيس حكومة يحاول الحفاظ على كرسيه. وكما في كل زواج، عندما يغيب تقسيم الأدوار تعمّ الفوضى ويبدأ الطرفان بايذاء نفسيهما في محاولة للابقاء على أكبر قدر من السيطرة داخل بيتهما، ومن ضمن هذه المحاولات قد يكسر أحد الزوجين بعض محتويات هذا البيت التي لا يجب أن تكسر، وقد يفسد بعض الاغراض فقط ليضمن بقاءه في ذات المكانة.
عودة إلى الدول “الديمقراطية” التي بدأنا الحديث عنها، نرى أن هذه الظاهرة من إفشال زواج السياسة والاعلام حاضرة بقوة وسببت صعود سياسيين يجيدون التمثيل وعرض الرسائل البسيطة مثل بنيامين نتنياهو، وحتى وصول مهرجين غاضبين مثل دونالد ترامب إلى حكم أقوى الدول، وقد تكون أهم صفة في هذا الجيل من السياسيين هو تباهيهم بتطرفهم وعنصريتهم وتصرفهم ببعض السخافة أحيانًا كما فعل بوريس جونسون عندما استهتر بجائحة الكورونا في بداية دخولها إلى انجلترا.
كل هذا التغيير هو مقلق وخطر على مثل هذه الدول، ويهددها بالتدمير الذاتي المبني على كراهية الآخر والعنصرية وعدم تقبل السلطة. يبدو أنّ المجتمع السياسي نفسه بدأ يفهم ويخشى خطورة استمرار هذا الانحدار في المستوى، ويحاول الآن التغيير والعودة الى علاقة سليمة مع الإعلام تمنع استمرار تحول السياسيين إلى مهرجين، أو على الأقل وضع قوانين تمنع هدم الدولة باسم المآرب السياسية الشخصية. نجد هذا بشكل غير مباشر في تبديل ترامب بجو بايدن الذي يوفر لنا كمية أقل بكثير من النكات والاقوال الغريبة، وانقلاب اليمين الاسرائيلي على ملكه نتنياهو ومحاولة من جاؤوا لتبديله الحفاظ على خطاب أقل سخافة وكراهية وشخصنة.
وعلى الرغم من ادعاء البعض أنّ التغييرات السياسية والاجتماعية في الدول الغربية هي بسبب تحولات اجتماعية واقتصادية وتاريخية بعضها طبيعي وبعضها ليس كذلك، إلا أن هناك بلا شك مكانًا للحديث عن دور الاعلام فيها. فتذكر يا أخي القارئ، أنك بينما تقرأ هذه الكلمات تجلس على كرسي أو ترتشف فنجان قهوة لعب الاعلام دورًا في اختيارك لها، الأمر مشابه في عالم السياسة.



