أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

محدّد القوة بين حد السيف وحماية الأسوار

صالح لطفي، باحث ومحلل سياسي

مدخل…

انتهت الحرب الرابعة بين المقاومة في قطاع غزة والتي تقودها حماس، وبين إسرائيل، بوقف للقتال دون شروط مسبقة من أحد الطرفين. وكنت قد تحدثت عن تحليل تلكم المعركة على ضوء المنظور الاستراتيجي لهذه الحرب أخذًا بعين الاعتبار الرؤيتين الإسرائيلية والمقاومة في كيفية رؤيتهما للحرب ونتائجها.

انطلق في هذه المقالة من التأكيد على أن مقاربة الحرب بين طرفين غير متكافئين وما آلت إليه من نتائج، تتجاوز نظريات الاستراتيجية العسكرية وموازين القوة بكل مكوناتها الخاصة والعامة، خاصة وأننا نعيش عصر السيولة المعلوماتية والسايبر وبالتالي فكافة التحليلات التي تعتمد نظريات الاستراتيجية العسكرية والقتالية وما تحوزه من قوى رديفة، تبقى مرهونة للحقائق الظاهرة للعيان، وهذه الحقائق تختلف النظرة إليها من جهة إلى أخرى كما تختلف قراءاتها. والحقيقة الثانية الماثلة أمام القارئ الكريم، أننا أمام استعمار إسرائيلي عنيف ومتوغل في السادية ويغلف استعماره بأثواب من الاخلاق النفعية المعبرة بجلاء عن العقلية الماركنتيلية الحاكمة في إسرائيل، ففي حين يحاصر هذا الاستعمار قطاع غزة ويخنقها يوميا، يقوم بناء على منطق انسنة الحصار بفتح المعابر لإدخال القوت والحاجات الأساسية الى أكثر من مليوني انسان، لا يملكون أدنى مقومات الحياة، فاعلا ذلك للوهلة الأولى من منطلق أخلاقي مشبع بمنطق الربح، وبذلك يكون هذا الاستعمار، ربحيا ومن ثم فالتحرر من مثل هذا الاستعمار يرقى لأن يكون أخلاقيا وعمليا، خاصة إذا تمشينا برجماتيا مع أوسلو ومخرجاتها المرحلية والنهائية، وكيف أن إسرائيل التي وقّعت الاتفاقية مع منظمة التحرير نقضت تلكم الاتفاقية بندا بندا بندا، بل وأحالت السلطة المنبثقة عنها بعد الانتفاضة الثانية الى مجموعات أمنية تخدم بقاءها والتمدد الاستعماري الاستيطاني، مستثمرة ثانية خلقها الماركنتيلي، ولكن بالتعاون مع دهاقنة أوسلو والمنتفعين منها، ففي ظل سلطة رام الله تمدد الاستيطان بشكل لافت في الضفة الغربية في العشريتين الأخيرتين بشكل حطم نهائيا أحلام دولة فلسطينية على مناطق الضفة، فإلى هذه اللحظات يوجد في الضفة الغربية 280 مستوطنة وبؤرة استيطانية ويسكنها 440 ألف مستوطن، فيما يستوطن الجزء الشرقي من القدس المحتلة عام 1967، 242 ألف مستوطن، علما أن فلسطين التاريخية يسكنها 14 مليون إنسان منهم 6.8 مليون يهودي يعيشون في إسرائيل و662 الف يستوطنون الضفة الغربية وشرقي القدس ويشكلون 48.7% من المجموع السكاني، ويسكن الضفة الغربية 2.75 مليون فلسطيني ويسكن قطاع غزة 2.05 مليون فلسطيني ويسكن الداخل الفلسطيني 1.6 مليون فلسطيني من حملة الهوية الإسرائيلية.

في هذا السياق وكما تشير معطيات دائرة الإحصاء الإسرائيلية فإنّ نسبة النمو السكاني لليهود في الضفة الغربية 3,9% فيما النسبة داخل إسرائيل 1.9% (معطيات للعام 2019)، يقابل ذلك خروج الاحتلال من غزة ومحاصرتها خارجيا، إذ للوهلة الأولى يعتقد المراقب والمتابع أنه تم تحرير تلكم الأراضي من الاحتلال، وهذا بحد ذاته حق لا ريب فيه، لكن في موازين القوة في سياق القراءات المستقبلية ثمة اعتبارات أخرى ذات مدى انساني-بشري-حياتي تتداخل في فهم هذه القضية، خاصة وأن القطاع محاصر، برا وبحرا وجوا، ومحاصر ليس فقط من قبل الاحتلال بل ومن قبل مصر التي بإمكانها تغيير كافة الموازين لصالح مستوى حياة أفضل لسكان القطاع بفتح الحدود، مدنيا، ولكن مصر مرهونة لقوى عالمية تملي عليها كيفية التعامل مع هذا الملف الذي يعتبر ملفا قوميا واستراتيجيا بامتياز بالنسبة لمصر، مما يعني اننا في سياقات القوة ثمة جانب يشكل تهديدا على القطاع بشرا ومقاومة باعتبار انه -أي مصر- تقدم مصلحة الاحتلال على مصلحتها القومية في ملف القطاع.

 

محدد القوة في سياق استراتيجي..

يشكّل محدد القوة أبرز النقاط الاستراتيجية في القراءة والتفكيك والبناء الرؤيوي لمستقبل العلاقات بين الطرفين على أساس من محددات القوة بين الطرفين، والمتجلية آنيا في محدد الإرادة والمادة والإعلام. تشكل الإرادة أحد أهم مكوّنات محدد القوة، إذ الارادة بمكوناتها النفسية والعقدية والفكرية وما يخرج منها من عمل وتنفيذ تعتبر الأساس الذي تقوم عليها الحروب بين قوى غير متكافئة من حيث المقدرة والمقدرات، وفي حروب العصابات التي تخوضها قوى التحرر، عادة ما تكون الإرادة الفاعل الخفي لاستمرار النضال والكفاح والثبات عليه، وتحمل تبعاته أي كانت هذه التبعات، ولعل أهم مصادر هذه الإرادة القوة الشعبية والالتفاف الشعبي حول الثورة والثائرين، ومن جميل القول في هذا السياق ما كتبه ناهض منير الريس في مقدمة ترجمته لكتاب حرب العصابات لتشي جيفارا: ” .. هذا الشعب- أي الشعب الفلسطيني- الذي قارع الإمبراطورية البريطانية في أيام عنفوانها عشرات السنين، ليس دخيلا على الثورة ولا متطفلا على حرب العصابات.. هذا شعب محارب، أمّا الذين يتحدثون بظواهره الوقتية فهم مصابون بعمى البصيرة ..”، ومن نافلة القول إن المؤسسة العسكرية أنزلت كل ما تملك من حممها الأمريكية والألمانية الصنع على قطاع غزة، ضاربة بُناه المدنية من منطلق التأثير على نفسيات المقاومة، ومن ثمّ رفعها الراية البيضاء فكانت الصورة على خلاف ظنهم، إذ خرجت الجماهير الفلسطينية تحتفي بثبات المقاومة معتبرة هذا الثبات نصرا ومعتبرة انها خلقت حالة من التكافؤ القتالي مع الفوارق الهائلة بين الطرفين في الإمكانيات والمقدرات، بيدّ أن حرب الصواريخ مقابل حرب الطائرات والبوارج والقنابل الفتاكة دفعت المواطنين في كلا المنطقتين ليكونا في صلب هذه المعركة.

يعتبر محدد القوة أبرز معالم الفصل وتحديد المنتصر والمهزوم في المعارك التي تدور بين دول، ولكن في سياق الحرب بين دولة احتلال ومقاومة تعتمد مراكمة القوة والنضال والتثوير الشعبي أساسا لفعلها، ومن محددات قوتها، ومع تحكم السيولة المعلوماتية والسياسية وتداخل معطيات التواصل المجتمعي والسايبر (السايبر، يعني استخدام الشبكات المحوسبة وشبكات الاتصال والمعلومات وأنظمة التحكم عن بُعد، ويعتمد السايبر على الأجهزة والبرمجيات الرقمية وطواقم المطورين والمبرمجين). بناء على ما سبق، فيمكننا تعريف القوة كمحدد استراتيجي على أنه ما تملكه القوى المتحاربة من إمكانيات مادية وعسكرية ومخابراتية واقتصادية هذا من جهة، وما تملكه من ظهير شعبي مؤيد وحامي ومتفهم للتبعات ومتحمل لإجراءات الحرب ونتائجها الآنية والمرحلية والمستقبلية، وما يتمتع به الظهير الشعبي من قوة نفسية وتحمل وإرادة تدفع للتحمل والتدافع وإدارة الصراع وخلق معادلات تثوير شعبي وتمكين مجتمعي وفرض معادلات على الخصم والتعرف على نقاط ضعفه وتفكيكه، واستثمار هذا الضعف لمصلحته، وما يملكه الطرفان من قوة إعلامية، وفي ظل السايبر والسيولة التواصلية ما يملكه الطرفان من التأثير على هذه الأدوات ومن يملكها وسبل نقل الأحداث لمصلحتهما، ويكون العامل السياسي الذي يشكل المخرجات المطلوبة لهذه الحرب باعتبار أن هذه المخرجات تتعلق بالتفاوض، سواء كان مباشرا أو عبر طرف ثالث، ولكن المهم في هذا العامل، ما يمكن لأحد الطرفين تحقيقه، إذ في هذا السياق فكل حرب تُخاض من المفترض أن تخدم أهدافا يمكن تحقيقها.

في سياق المقاربات بين المقاومة والاحتلال ومجريات الحرب من لحظاتها الاولى وإلى لحظة الإعلان عن وقفها، وخروج ملايين الفلسطينيين والعرب والعجم مناصرين للمقاومة، ومعتبرين أنها انتصرت، ثمة حاجة إلى تفكيك دقيق لصيرورات المعركة ليس في معطياتها الظاهرة والتي بثتها الجزيرة لحظة بلحظة، بل وفي خلفياتها والحرب الخفية بين الجانبين، وكيف اثرا على قضايا من مثل عدم خوض حرب برية ومن مثل الزخم الإعلامي الإسرائيلي المجند، مقابل الإعلام الرقمي الذي أحسن الفلسطيني استخدامه، فأحرج شركات الفيسبوك والتويتر والتيك-توك والانستجرام، وأسس هذا الامر لعلاقات تتخلق حاليا تشي بتطورات لن تخدم المنظومات الاستعمارية القائمة في منطقتنا، بما في ذلك دول الاحتلال العربي السابحة في الفلك الأمريكي.

في هذه الحرب كان للتقنيات والتكنولوجيا العسكرية، دور كبير وأنا أزعم أن كلا الطرفين وجدها مناسبة لتجريب سلاحه الذي يطوره وفقا للظروف الموضوعية التي عايشها الناس والعسكر في الطرفين. العامل غير البشري أي التقانة العسكرية والسايبر لعبا دورا مهما في هذه الحرب، وواضح أن الطرفين طورا قُدرات تبعا لظرفية كل جانب تم استخدامها في هذه الحرب، ولا أظن أن اليوم سيكون بعيدا للكشف عن أدوات جديدة استخدمت في هذه الحرب جعلت مسألتي الكفاءة محل اعتبار ونظر.

 

المدنيون كأداة محددة للقوة

كلنا رأى أن الاحتلال استخدم قوته وجبروته عبر أسطول الطيران ودك القطاع بأطنان من القنابل، مراهنا على المدنيين كأداة كسر لمعنويات المقاومة لترفع الراية البيضاء، فكان رهانه خاسرا بائسا، فضحه محليا ودوليا، وكانت الساعات التي تبعت لحظات وقف إطلاق النار مميزة في التاريخ الفلسطيني، فمنذ مئة عام لم يشهد الشعب الفلسطيني مثل هذه الابتهاجات المعبرة عن نصر المقاومة رغم الدمار الهائل الذي أحدثه الاحتلال في البنية المدنية في القطاع، وهو ما أدخل المؤسسة الدولية إلى معادلات الصراع.

في سياق المقاربات بين الشعبين والمجتمعين، لاحظ المراقب كم هي هشاشة المجتمع الإسرائيلي، وكم هو مرتبط حد التبعية المطلقة بإعلامه الرسمي الذي تم تجنيده للمعركة، خاصة في مواجهة الداخل الفلسطيني، بل وكشفت هذه العركة أكثر من أي معركة ثلاث قضايا تميز بها المجتمع الإسرائيلي وكشفت عن هشاشته وعن حجم العنصرية المتغلغلة فيه وعن حجم جهله وفقره المعرفي والمعلوماتي اتجاه الآخر الفلسطيني، كل فلسطيني واتجاه المعركة التي دارت على عتبات بيته.

المعركة كشفت عن هشاشة المجتمع الإسرائيلي على الرغم من القوة العسكرية الهائلة التي يتمتع بها الجيش والدعم الذي تلقاه من دول عديدة، في مقدمتها الولايات المتحدة، وبالتالي فانتصار المقاومة الذي احتفى به الفلسطينيون والعرب لم يكن من خلال مقاربات معاني القوة، وإن دخلت ولأول مرة في معامل القراءة الشعبية لمحدد القوة، ولكن ثمة قيمة مضافة في هذه المعركة تجلت في معامل التحمل والصبر للإنسان الغزي من جهة، واكتشاف الذات للفلسطيني في كل فلسطين التاريخية، وكانت ثالثة المعالم انتهاء الخوف والذعر والهلوسة من قوة الآلة الإسرائيلية، وهو ما يعني انتفاء قيمة الردع كعامل إسرائيلي في محددات القوة.

الاعتبار العسكري بمعنى القدرات العسكرية جاءت قراءاته بشكل سلبي لافت، إذ تمت مقاربات التطور العسكري للمقاومة مقابل الدعم الذي تتلقاه إسرائيل، ومن ثم فقد تم رفع قيمة عامل التحمل والصبر وهو ما منح المعنويات العالية للكل العربي والفلسطيني-طبعا غير الرسمي-.

 

المركب السياسي في محدد القوة

العامل السياسي تتعاظم أهميته مع مخرجات الحرب العملية والنفسية، وواضح أن ما بثّته المقاومة وما حظيت به شعبيا من دعم، جعل الظهير الشعبي قوة هائلة في محدد القوة، مما منحها قوة في التفاوض لتحقيق أكبر قدر ممكن من الطلبات، ومن ثم فالمحلل السياسي ينتظر ما ستنتهي إليه المفاوضات الجارية عبر الوسيط المصري من جهة، وما يتداخل على هذا المحدد من مظاهر خارجية تغير بعضا من مقارباته، كمثل الأوضاع في القدس والداخل الفلسطيني والضفة الغربية وتداعياتها في الأفقين القريب والبعيد، وأدوار السلطة، إذ تشير المقاربات التاريخية لفهم العلاقة بين السلطة والمقاومة إلى سلبية في المواقف، ويشكل تصريح محمود عباس الرافض لوجود حماس في الضفة الغربية أثناء الحرب، معلما آخر من معالم القراءات السياسية، ذلكم أن تخوفات تسيطر على الشارع الفلسطيني من استئثار سلطة رام الله بأموال الإعمار مما يمنحها انزيمات حياة على حساب الدماء المسفوحة في غزة، وعلى حساب الدمار الكبير الذي حلّ ببناها التحتية، هذا من جانب، ومن جانب آخر الحاجة تتزايد لفهم الأدوار العربية في هذه المعركة. من جهة أخرى فإنَّ دولا مثل إيران وتركيا وقطر، دخلت إلى معادلات محدد القوة عبر لافتات مختلفة تصب في مصالحهم كدول في المنطقة، تتقاطع مع مصالح المقاومة من جهة، ومع مصالح إسرائيل كدولة شرق أوسطية. تقارب العلاقات مع دول عربية وخليجية وإسلامية في منطقتنا بما يخدم مصالحها يُضاف إليه التفاعلات السياسية في الداخل الإسرائيلي، وفهم مقاربات الطلب الإسرائيلي بدعم امريكي بقيمة مليار دولار لتجديد القبة الحديدية التي يبدو أن المقاومة فككت رموزها وتحايلت عليها.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى