مقالاتومضات

رمضان والحنين إلى الزمن الأصيل

ليلى غليون

لرمضان نفحات وبركات لا تعد ولا تحصى، ويكفي بركة هذا الشهر الكريم أنه يجمع أفراد الأسرة الواحدة في وقت واحد حول مائدة الإفطار، ينتظرون تكبيرات المآذن بقلوب مرهفة وألسن تلهج بذكر الله تعالى.

وهذه اللّمّة الأسرية التي ترسم صورة للترابط والتلاحم الشعوري بين أفراد الأسرة، نكاد نفتقدها في واقعنا الرابض تحت وطأة ثورة التكنولوجيا وسهام العولمة والتي من ضمن أهدافها تحقيق وتكريس الفردية في المجتمع من خلال فرط النسيج الأسري والروابط الاجتماعية وقد حصل وللأسف.

فمائدة الطعام التي كانت يوما من الأيام في ذلك الزمن الجميل، في ذلك الزمن الأصيل، تلم أفراد الأسرة ينتظر أحدهم الآخر، فلا تمتد يد إلى الطعام حتى يحضر الجميع، بل كانت الأم تزرع في وعي أبنائها معنى الصبر والاحترام وبر الوالدين، وذلك عندما تطلب من أبنائها انتظار عودة أبيهم من عمله، بل نجد ربة البيت في كثير من الاحيان ترفض أن تكشف عن طنجرة الطبيخ حتى يعود أبو أبنائها إلى البيت يأكلون طعامهم سوية بعد أن يسمون الله تعالى، ويحمدونه سبحانه سوية بعد انتهائهم من وجبتهم.

ليلتم شمل الأسرة حول المائدة والتي لم تكن سوى صينية مصنوعة من القش صنعتها الأم بيديها بمهارة وفن وإتقان وبألوان زاهية والتي كانت في الغالب هي مائدة الطعام في ذاك الزمان.

ولكن في أيامنا هذه، قلّما تتحقق هذه اللحمة الأسرية إلا في رمضان، فكثير من الأمهات يتذمرن من أنهن يقضين الأوقات الطويلة في إعداد الأكل وتنظيف الصحون بسبب أن أفراد الأسرة يتناولون طعامهم كل على حدة، وفي كثير من الأحيان يكونون متواجدين في البيت وفي نفس الساعة، ولكنهم موزعون في غرفهم ومنشغلون في شؤونهم ومع أجهزتهم الالكترونية الخاصة (حيث بات لكل فرد من أفراد الأسرة جهازه الخاص، وهذا ما يثبت تكريس الفردية) لتضطر الأم أن تحضر لكل واحد منهم طعامه بمفرده وتدخله إلى غرفته.

لذا عزيزتي الأم، إن رمضان فرصتك العظيمة لاستعادة تلك الصورة المشرقة التي كانت عليها الأسرة أيام زمان، يوم كانت البركة تعم الجميع، يوم كانت البساطة سمة الناس، يوم كانت القلوب صافية كصفحة السماء، والوجوه زاهية بلا رتوش ولا مساحيق وألوان، يوم كانت بركة صحن الطبيخ الواحد تكفي لأسرة كاملة.

نعم إنها فرصتك لاستعادة تلك الصورة الوردية للقيم الأسرية الرائعة التي أخذت تنصهر وتذوب في أتون العولمة وتتبخر مع الزمن، وذلك بلفت أنظار أسرتك وأنتم على مائدة الإفطار إلى هذه اللمة التي تجتمعون فيها على طاعة الله ورضوانه، تنتظرون سويا ساعة الأذان، بأنها لمة تجسد معاني المحبة والقيم الجميلة، ومظهر لروح الجماعة، حيث الشقيق بجانب شقيقه أو شقيقته أو أمه أو أبيه، ألفتي أنظارهم الى هذه الصورة الرائعة من الألفة والترابط، أثيري في نفوسهم هذه المعاني الراقية ورددي أمامهم: أن يد الله مع الجماعة، وأن البركة في الجماعة، وأن الأسرة المترابطة لا تجتمع فقط في رمضان، بل في كل وقت، وكم هو جميل ورائع أن ننتظر بعضنا بعضا على مائدة الطعام بغير رمضان مثلما ننتظر سويا ساعة الافطار، ويمكنك عزيزتي أن تديري مع أبنائك حوارا هادئا كأن تقولي لهم مثلا: ما رأيكم أن نظل هكذا بعد انتهاء شهر رمضان؟ ما رأيكم أن نجعل من رمضان فرصة للتدرب على أن نجلس دائما مع بعضنا البعض ونتقاسم لقمة هنية في ظل أسرة سعيدة؟

كذلك عزيزتي الأم، فإن رمضان فرصتك لتدريب أبنائك على أعمال البر والإحسان لكل الناس وخصوصا ذوي القربى، فقد كانت ربة البيت في ذاك الزمن الأصيل، وقبل هذا الغزو العولمي المرعب تطبخ الطبخة فيعلم الجميع ماذا طبخت ليس عبر مواقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك” وإخوانه كما هو مشهور في هذه الأيام، بل لأن معظم أفراد الحي كانوا يأكلون منها، حيث كان من العادة أن تطبخ المرأة طبخة ما ثم تبعث بابنها أو بنتها بصحن من طبيخها يلف ويطوف ويوزع على أقربائها وجيرانها وغيرهم، فماذا عليك لو أعدت صورة هذا المشهد ولو على نطاق مصغر، كأن ترسلي طفلك أو طفلتك قبيل الإفطار إلى جدهم أوجدتهم أو عمتهم أو حتى إلى أعمامهم، يحملون لهم طبقا لذيذا من حلوى وغيرها من صنع يديك، فتعمقين بذلك أواصر المحبة والقربى وتوثقين في نفوس أبنائك انتماءهم لعائلتهم الممتدة، فغالبا ما نجد أبناء اليوم لا يعرفون أقرباءهم إلا من الدرجة الأولى أو الثانية وبالكاد، وإذا عرفوهم فالعلاقات بينهم واهية لا يلتقون إلا في المناسبات، والعبرة من هذا الطبق الذي ترسلينه مع طفلك لأحد أقربائه ليس لملء البطون بالطعام، ولا لأنهم جياع وبحاجة للطعام، لا بل للدق على أبواب القلوب لتفتح بعد إغلاق، وريها بالمحبة والألفة التي باتت صورتها تبهت يوما بعد يوم في ظل واقع عصيب الكل يشكو مرارته ويئن من وخز أشواكه.

إننا بحاجة لعودة هذه الاشراقات والتي هي من صلب هويتنا وأصالتنا، فكم هي البيوت التي تعيش في صقيع عاطفي بسبب انشغال الافراد كل في عالمه الخاص، فنجد من يتحدث عبر الوسائل الالكترونية مع أشخاص من كل أنحاء العالم، ويعرف ما يجري في كل بقعة من بقاع الأرض، ولكنه في ذات الوقت لا يدري ما يجري خلف جدران غرفته ولا يتحدث حتى مع أقرب الناس إليه، ونجد جدرانا شاهقة تفصل بين الناس، أقصد تفصل بين قلوبهم ومشاعرهم وباعدت بين أرواحهم وحالت دون تواصلهم وارتباطهم وعلاقاتهم الاجتماعية إلا ما ندر.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال في شهر الطاعات وفي كل وقت… وكل عام وأنتم إلى الله أقرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى