أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

دعوة للتسامح يطلقها رمضان

ليلى غليون

أيامٌ معدودات تفصلنا عن أيام معدودات هي خير الأيام وأعظمها عند الله تعالى، نهارها يشع بالرحمة والمودة والسكينة وليلها يفيض بنفحات الذكر ونسائم الشوق ودموع التبتل والإنابة، قلوب هائمة تسبحّ في ملكوت الله، طارقة أبواب رحمته لعلها تحظى بالرضوان والقبول والولوج في رحاب المنعم المتفضل الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير.

أيام معدودات، وتتوالى مواسم الخير الوفير والربح الكثير لتتجدد المنح والعطايا الالهية لأصحاب الحاجات والفقراء لرحمة الله أمثالنا، لنغسل من أنوار المغفرة ما ران على قلوبنا وما علق على نفوسنا من أدران خلال أيام خلت، لنحاول مجددًا مع هذه النفوس المريضة لعل وعسى تنصلح أحوالها وتجدد العهد مع المولى عز وجل وتوقع معاهدة صلح معه سبحانه، وتعقد العزم على السير في منهاجه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، بعد أن أصبح الحال يغني عن المقال.

أيام معدودات ونستقبل موسم التنقية والتزكية والفيوضات الربانية لترويض النفوس وإعادتها إلى الجادة، بعد أن أنهكتها الذنوب ولوثتها الخطايا، لتستحم بالنور المتدفق من بركات رمضان، فالفائز فيه من غنم والخاسر فيه من حرم والرابح من أدرك أسرار هذا الشهر العظيم، والمحروم من جاء رمضان وارتحل ولم يترك فيه بصمة خير أو لمسة تغيير.

إنه رمضان الحب والرحمة، يوشك أن تهب نسائمه ويتناثر عبيره فينعش الأرواح التي أرهقها اللهاث والسباق في دنيا فانية، لتترفع عن الدنايا وتسمو وتسبح في ملكوت الله عز وجل، يعود ليذكر الغافلين، ويمسح على قلوب المستغفرين، ويبشر العائدين إلى الله عز وجل بحصاد وفير وأجر جزيل ومغفرة من رب كريم.

ولكنه رمضان يوشك أن يطل ويبزغ هلاله من بين ظلمات تعلوها ظلمات، من بين آلام فوق آلام، من بين غيوم القهر وضباب المرحلة يطل بأنواره، يرفل بثيابه البيضاء النقية الطاهرة وينادي بهمساته الندية الدافئة، يطرق أبواب القلوب طرقات خفيفة حنونة ويربت عليها ربتات مشفق، آلمه ما وصلت إليه تلك القلوب من التصحر والقسوة والجفاء، وآلمه ما وصل إليه الحال من القطيعة والعنف والقتل وسفك الدماء، وآلمه سوء الحال والمآل الذي وصلت إليه خير أمة أخرجت للناس.

يطلّ رمضان، والحال يحكي بمرارة ويسكب الدموع مدرارة على واقع بتنا نعايشه ونتعايشه كل يوم، ننام ونصحو على أشواكه الواخزة، ونتنفس من هوائه الفاسد ملء رئاتنا التي تكاد تختنق من دخانه، ولا نملك من تغيير هذا الواقع شيئا إلا جعجعات وهمهمات هنا وهناك تتلاشى مع نسمات المساء وغروب شمس ذلك اليوم.

رمضان يعود، وتمخر سفينته في عباب بحر هائج وأمواج من الفتن متلاطمة عاتية، ينادينا كالأم الرؤوم والأب الحنون، يهدينا نفثات من وجدانه ونبضات من شعوره: (يا بني اركب معنا) اركب معنا، تنجُ وينج حالك، وينجُ مجتمعك، بل تنجو أمتك بأكملها.

اركب معنا، وقل يا الله، وفي كل حال قل يا الله، يا الله: جئتك متسربلا بثياب الندم والتوبة والأوبة.

اركب معنا، وابسط يدك ومدها لتنقذ الغرقى من غياهب الضلال فهم كثر ينتظرون النجاة.

اركب معنا، فالركب آمن يسير باسم الله وعلى عين الله (بسم الله مجريها ومرساها).

إنه ركب رمضان، يدعو الجميع ليصافحهم ويحتضنهم ويقول لهم: كل عام وأنتم إلى الله أقرب، كل عام وأنتم إلى الله أخشى وأتقى، كل عام وصدوركم أنقى، كل عام وأنتم بأمان ومحبة وسلام. كل عام وقلوبكم عادت لفطرتها وتخلصت من لوثتها ومزقت سواد كسائها، تنبض بالحب والتسامح والإيثار وكل مفردات الخير العميم وما أكثرها.

انها دعوة للتسامح والتغافر والتحابب منقوشة ومصفوفة كالفسيفساء بألوان خلابة على صفحة الهلال، هلال رمضان يبهر الناظرين مرآها.

دعوة لتجفيف منابع الحقد والبغض من القلوب بحرارة الحب ودفء المشاعر الأخوية الجياشة.

دعوة لتحطيم أسوار شاهقة من القطيعة والخلافات والتفكك انتصبت وأحاطت النفوس بأسلاكها الشائكة وبناء جسور التواصل الحقيقي والتزاور والمسامحة والمصالحة وإصلاح ذات البين والتعاون على الخير وحسن الظن فيما بيننا.

دعوة نبللها بقطرات الحب ونكتبها بمداد الوفاء نهب فيها بعضنا عفوا، أعفو عنك وتهبني عفوك عسى الله تعالى أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

دعوة ننشد فيها نشيد المحبة والأخوة مرددين:

رفاق الدرب مازلتم        بقلب القلب أحبابا

وإن غبتم وإن غبنا        فإن الحب ما غابا

هي التقوى تجمعنا         وحب الله قد طابا

رضا الرحمن غايتنا        وللفردوس طلابا

دعوة، بل هي عودة صادقة إلى المولى عز وجل لتجديد العزم وشحذ الهمم واستجاشة حنين ثائر ورغبة جامحة وشوق متأجج لأيام خلت، كنا فيها خير أمّة أخرجت للناس.

إنها دعوة رمضان، فهل من مجيب يا أمة رمضان؟

تقبل الله منا ومنكم الطاعات وكل عام وأنتم بخير

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى