مقالاتومضات

إعلان استقالة

ليلى غليون
عندما تطرق هذه الكلمة مسامع أحد، يتبادر لذهنه فورًا وبدون أدنى تفكير أن المقصود بها استقالة من عمل أو وظيفة لسبب من الأسباب أو تحت أي ظرف من الظروف، وإن كانت الاستقالة من عمل أو وظيفة ما ليست نهاية الدنيا رغم أنه قد يترتب عليها بعض الضرر المادي المؤقت، لأنه قد تتاح للشخص فرص عمل أخرى وتفتح أمامه أبواب رزق يعتاش منها وتكفي مؤونة عائلته: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)، (وفي السماء رزقكم وما توعدون). وقد يتقلد زمام تلك الوظيفة من هو أكثر كفاءة وقدرة، وحتى لو بقيت تلك الوظيفة شاغرة فالضرر يظل قاصرا غير متعد.
ولكن الاستقالة التي أعنيها في هذا السياق، والتي هي من وجهة نظري المتواضعة إن تمت وحصلت، فإني أعتبرها لغما ينسف قواعد التربية الوالدية عن بكرة أبيها، إنها استقالة الوالدين، أحدهما أو كلاهما، عن مهمة ووظيفة التربية، والتي لا تصلح فيها نيابة أحد غير الآباء والأمهات بالدرجة الأولى، والتي تحولت لاستقالات شبه جماعية، كما بتنا نشاهدها ونعاينها في واقع مجتمعنا، من خلال الصور المرعبة التي تجسّدت في سلوكيات العديد من الأبناء والبنات، وبالرجوع للعديد من الآباء والأمهات ولأولياء الأمور، تبيّن أن الآباء في واد والأبناء في واد آخر، بل في كثير من الأحيان الآباء والأمهات مغيبون تماما وليسوا على اطلاع بما آل إليه أبناؤهم وبناتهم، فهم على ثلاثة أحوال: إمّا يقفون موقف المتفرج دون مبالاة، وإمّا موقف المشجّع في بعض الأحيان، وإمّا موقف الغائب الذي لا يعلم من الأمر شيئا.
حدثتني إحدى معلمات المرحلة الثانوية قائلة: جاءت فتاة إلى المدرسة بلباس لا يليق بطالبة وقد وضعت المساحيق على وجهها ورائحة العطر تفوح منها، فتقدّمت منها وبأسلوب مهذب ورقيق ناصحة إياها بأن هذه الهيئة التي هي عليها لا تليق بها كطالبة، فما كان منها إلا أن انفعلت بغضب وتحدثت معي بأسلوب غلب عليه الاستياء والاستهجان بأن هذا ليس شأني وأنها لمّا خرجت من بيتها بهذا اللباس لم تعترض والدتها ولا والدها وهي حرة بلباسها ولا يحق لأحد التدخل فيه، ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل اتصلت بوالدها فورًا وأخبرته بما حصل معها، ليأتي حالا إلى المدرسة وعلامات الغضب تغطي وجهه مهددًا ومتوعدًا بأنه لا يسمح لأحد التدخل في شأن ابنته وإلا سيرفع الأمر إلى الوزارة.
وهذه معلمة أخرى في المرحلة الإعدادية حدثتني عن موقف لإحدى الأمهات معها قائلة: أنا معلمة دين، كنت أشرح لطلاب الصف الخامس عن أركان الإسلام وتحديدًا عن الصلاة وأنها عمود الدين، وأن ترك الصلاة ذنب كبير يترتب عليه عقوبة من الله تعالى، وكنت أعلّم الطلاب كيفية الصلاة وأحببهم فيها. وفي اليوم التالي تفاجأت بأم إحدى طالباتي تريد مقابلتي لأمر مهم كما قالت لي، وعندما جلسنا للحديث تكلمت بلهجة حادة قائلة: إنك تعقدين الأولاد بتعليمك! وعندما طلبت منها توضيح كلامها قالت: كيف تعلمينهم الصلاة وهم في هذه السن وتتحدثين معهم عن الجنة والنار… هذا تعقيد ولا أريد لابنتي أن تتعقد بهذا الأمر!!! تضيف هذه المعلمة: لقد ألجمت لساني كلماتها ولم ادر بما أرد عليها سوى بسؤال نطق به لساني: هل تصلين؟ هذا السؤال استفزها وفجّر فيها قنابل الغضب لتخرج وهي تقول بعصبية: (بصليش وأنت مالك) مع عبارة نابية تفوهت بها أمام الأطفال نتحفظ عن ذكرها.
ونحن في هذا السياق لا يمكننا رصد كل المظاهر والصور النمطية في حياتنا اليومية والتي تؤكد أن العديد من الآباء والأمهات من يديرون لها الظهور ويغمضون لها الأعين، لتجد آباء ولكنهم لا يملكون أبوة الأب بمفهومها التربوي الشامل، وأمهات ولكنهن يفتقرن لأمومة الأم بمعناها الحقيقي الواسع، الأمر الذي يؤكد أن الأبناء يعيشون أزمة تربوية خطيرة هم ضحيتها.
فمعظم الآباء مشغولون وقد تحولوا إلى مجرد وزارة مالية أو وزارة تموين، وغالب البيوت تحولت من كونها محاضن تربوية إلى مجرد فنادق للنوم والراحة. نعم إننا لم نبالغ عندما قلنا إن هناك استقالات جماعية تربوية، أليست هذه حقيقة واقعة؟
أليس خروج العديد من الفتيات بكامل الزينة والتبرج وبأزياء مخجلة، أليس هذا دليلا على تنحي الأهل عن العملية التربوية؟
أليس امتلاك الأطفال من بنين وبنات للهواتف النقالة يتبادلون الصور الخليعة والمشاهد الهابطة بدون رقابة الأهل، أليس هذا استقالة تربوية فعلية؟ أليس ارتياد وتصفح الأبناء والبنات لمواقع الانترنت والتواصل الاجتماعي يشاهدون ما يشاهدون دون رقيب أو حسيب، أليس هذا استقالة تربوية من العيار الثقيل؟
أليس تساهل العديد من الأبناء والبنات في المحرمات وتكاسلهم عن أداء الصلاة وباقي العبادات ونشأتهم في غير طاعة الله تعالى فلا يحملون من الإسلام إلا اسمه، أليست هذه انتكاسة تربوية يتحمل الأهل مسؤوليتها؟
أليس عقوق الأبناء الذي عقاربه تكاد تلسع الجميع كارثة تربوية ليست إلا نتيجة لاستقالة الأهل عن مهمة التربية؟ إن ظاهرة الاستقالات الجماعية هذه، ظاهرة مرعبة وقضية اجتماعية خطيرة تدعو الآباء والأمهات للوقوف طويلا لمراجعة أنفسهم وأين هم على الخارطة التربوية السليمة، فلعلهم يعودون إلى مواقعهم وإصلاح ما يمكن إصلاحه حتى لا يعضوا أصابع الندم في الوقت الذي لن ينفع فيه ندم، وقد ضاع كل شيء. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو لها غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)، رواه مسلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى