أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

“العمل العبري” ونواطير العرب

ساهر غزاوي
منذ العام 1904، ومع بدء الموجة الثانية للهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، طالب الجناح المسيطر داخل المشروع الصهيوني بحصرية “العمل العبري” في مرافق الاقتصاد اليهودي بهدف أن تعالج بشكل مباشر مشكلة كانت نتاجًا فرعيًا للصراع اليهودي- العربي في البلاد. وطالب هذا الجناح بتشغيل عمال يهود فقط- كفئة اجتماعية (طبقة مميزة) في المستعمرات اليهودية بادعاء، كما جاء في النص، أنه “دون عمل عبري نكون كمن يبني أبنية على الرمال. نحن نريد إقامة تجمع يهودي- قومي في أرض إسرائيل. ولكن مفهوم تلقائيًا أن هذا التجمع لا يمكن أن يكون مكونًا من طبقة أرباب عمل يهود وطبقة عمالية غير يهودية”. وسُرب إلى وعي المستوطنين اليهود الجدد في فلسطين بأن “العمل العبري” هو بمثابة فريضة أساس. لكن لنقص في الأيدي العاملة ومن أجل حراسة “العمل العبري” وأهداف المشروع الصهيوني، تم استخدام عمال عرب من القرى العربية المحيطة بالمستوطنات اليهودية كـ “بوليصة تأمين”، لأن احتمال مهاجمة القرويين للمستوطنات كان ينخفض كلما تم استخدام السكان القرويين لدى أرباب العمل اليهود الذين كان بمقدورهم أيضًا منعهم من العمل. كما وكان استخدام حراس (نواطير) عرب بمثابة دفع (فدية- كفارة) ضد السرقات.
على غرار ذلك، فإن الكنيست الإسرائيلي هو “عمل عبري” خالص وامتداد للمشروع الصهيوني، حتى أن الكنيست، كما يعرف الجميع، كلمة عبرية، تعني الاجتماع، ويسمى المعبد اليهودي “بيت هكنيست”، أي المكان الذي يجتمع فيه اليهود، وتستخدم الكلمة حاليًا للدلالة على “البرلمان الإسرائيلي”، واشتقاق الاسم، وتحديد عدد الأعضاء (120)، مأخوذان من “كنيست هجدولا” وهي الهيئة التشريعية لليهود فيما يسمى بعهد الهيكل الثاني. وصار الأمر بديهيًا للمجموعة الفلسطينية في الداخل اليوم، أكثر مما مضى، الذين تعرض آبائهم وأجدادهم في عام النكبة (1948) للمجازر الوحشية البشعة ولعمليات التهجير القسري من أراضيهم على أيدي عصابات صهيونية مسلحة لينشؤوا كيان لهم (الدولة الإسرائيلية)، أن الكنيست الذي هو أحد الأعمدة الرئيسية للمشروع الصهيوني وُجد أصلاً من أجل إنهاء وجودنا كعرب وفلسطينيين على أرضنا وسلبنا حقوقنا ومحو هويتنا.
وللتذكير، فإنه إبان الحرب العالمية الثانية، وفر صك “الانتداب” والدولة البريطانية المحتلة إطارًا مؤسسيًا، ونظامًا سياسيًا شرعيًا، ومظلة أمنية لتطور المجتمع اليهودي ونموه. ووفقًا للبند الرابع من صك الانتداب، أقيمت الوكالة اليهودية (في الواقع تم الاعتراف بها) كممثل رسمي للمنظمة الصهيونية العالمية والجالية اليهودية لدى السلطة البريطانية. وبموجب مرسوم الطوائف والملل الدينية للعام 1926 تم الاعتراف بـ “كنيست يسرائيل”، لكن (مجلس المنتخبين) الأول لـ “كنيست يسرائيل”، الذي كان قد تم انتخابه في شهر نيسان/أبريل العام 1920 فور استقرار وضع القانون والنظام في فلسطين، كهيئة تمثيلية لمجموع يهود البلاد، صهيونيين وغير صهيونيين. تمت تسمية الإطار التنظيمي للسكان اليهود في أرض إسرائيل بـ “كنيست إسرائيل”.
وفي العودة إلى “العمل العبري” والنواطير العرب، فإنه تمامًا كما جرى استخدام عمال عرب من أجل حراسة “العمل العبري” وخدمة أهدافه الصهيونية الاحلالية مع بدء الموجة الثانية للهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، فإنه ومنذ الدورة الأولى للكنيست عام 1949 التي انخرط (سُمح لهم بالأحرى) فيها ثلاثة أعضاء عرب وهم: سيف الدين زعبي، وتوفيق طوبي، وأمين سليم جرجورة، وحتى الدورة الأخيرة للكنيست الـ 23 التي حصل فيها العرب على 15 مقعدًا من خلال “القائمة المشتركة” وهي أكبر حصة في تاريخ السماح لهم بالانخراط في الكنيست والتي هي بحسبهم “قوة برلمانية وازنة” سيكون لها “الدور المؤثر في الحياة السياسية”، استخدمت الحركة الصهيونية وجودهم لأغراض سياسية عنصرية ضدهم على مدار أكثر من 70 عامًا، واستغلت وجودهم استغلالًا بشعًا وحاولت أن تُجمل وجهها وتلمع واحة ديمقراطيتها الوحيدة الكاذبة في الشرق الأوسط بالسماح لهم مرارًا بالصراخ باللغتين العربية والعبرية وبالفصحى والعامية، ورفع الآذان أحيانًا، واستقالة عضو عربي في أحيان أخرى وغيرها من الحركات الاستعراضية، الأمر الذي شجّع شمعون بيرس في مؤتمر دافوس الذي انسحب منه الرئيس أردوغان على أثر الحرب على غزة أن يقول: “نحن دولة ديمقراطية وأكبر دليل وجود أعضاء عرب في الكنيست، بل ويشتمونني شخصيًا”!!
في حقيقة الواقع، وبعد أكثر من سبعين عامًا لا يسعنا إلا أن نقول، وفقًا للمعطيات وحقيقة الواقع، إن السماح بالانخراط العربي في الكنيست الإسرائيلي الذي أدّى وما يزال دور “نواطير العرب” في “العمل العبري”، ساهم في تثبيت المشروع الصهيوني وعملية السيطرة الاستعمارية الكاملة التي تمارسها السلطات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. والحقيقة أن الكنيست ليس المكان الذي يُتوخى منه أن يحقق لنا أي حق فيه ولا أن يرفع عنا أي ظلم منه ولم نلمس ولم نرَ من خلال الانخراط فيه إلا المزيد من التراجع على أهم المستويات منها الثابت الوطني والأمن المجتمعي، حيث أن هذا الانخراط والمشاركة حَوَّل القضية الفلسطينية داخل أراضي 48 إلى قضية مطلبية تتعلق بتحسين شروط معيشة شريحة من مواطني الدولة الإسرائيلية، في الوقت الذي أسقطت فيه دينامية المطالب الوطنية التاريخية الفلسطينية.
ختاما، فإن السماح للعرب الفلسطينيين في الانخراط في العملية السياسية الإسرائيلية الممثلة بالمشاركة بالكنيست الصهيوني بادعاء أن مشاركتهم في “العملية الديمقراطية” جاءت لتحافظ على مصلحة “الأقلية”، من خلال استخدامهم لأدوات “برلمانية” مجربة سابقًا ولم تؤت أكلها، ما هي إلا معارك وهمية مصطنعة، ولم تقدّم للمجتمع العربي قيد أنملة في قضاياه الجوهرية والمصيرية وهي كثيرة، والأكيد أن الكنيست الصهيوني هو “العمل العبري” بمثابة فريضة أساس لخدمة أهداف المشروع الصهيوني. وما مثل انخراط العرب في الكنيست إلا كمثل “نواطير العرب” في حراستهم لـ “العمل العبري” مع شديد الأسف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى