أي الأمهات أنت؟
ليـــــلى غليـــــون
عندما نتحدث عن الأمومة فإنما نتحدث عن فيض من المشاعر الحانية والأحاسيس الشفافة الرقيقة التي تغار من شفافيتها ورقتها نسيمات المساء، بل نتحدث عن لوحة فنية رائعة أبدعت ريشة الحنان والعطاء والتضحية في رسم تلك المعاني الجميلة على صفحتها التي تألقت فيها روح الجمال وجمال الروح الذي زاد من روعتها.
حتى لكأن روافد العطاء والحنان تصب من ذاك النبع الرقراق الصافي الذي لا ينضب سيله، فإليك يا نبع الحنان أوجه كلماتي، إليك يا من أوصى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلك أول الناس وأحقهم بحسن الصحابة والعشرة حين قال: (أمك ثم أمك ثم أمك )، إليك يا من جعلت الجنة تحت قدميك، إليك يا من قال فيك رب العزة: {حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا …} ها هم أبناؤك وبناتك نعمة لا تضاهيها نعمة، وهبك إياها جل وعلا لتكتحل عيناك بالسعادة وقد تجسدت أمومتك وتحققت من خلالهم، وها أنت تتفانين في خدمتهم وإسعادهم وتهيئين لهم كل الأجواء والظروف التي من شأنها أن تجلب لهم الاطمئنان والراحة، وتقدمين لهم من نفسك وصحتك وراحتك وبكل الحب والرضا، وتتمنين في قرارة نفسك لو تغمضين عينيك وتفتحينهما فترين صغارك وقد أزهر الأمل في درب مستقبلهم وقد غدوا رجالًا يشار إليهم بالبنان، وثمارًا طيبة في بساتين غد مشرق جميل. وتتضرعين إلى الله تعالى أن تتجسد أحلامك بواقع جميل يكون فيه أبناؤك وبناتك خير الناس وأسعدهم.
ولكن يا صاحبة القلب الكبير والحضن الدافئ والصدر الرحب، هل يمكن للأماني أن تتحقق بالتمني؟
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وهل يمكن أن نصل إلى غاياتنا وأهدافنا إن لم نسلك السبل المؤدية إليها؟ وهل يمكن أن نصنع جيلًا معطاء مثمرًا قادرًا على حمل لواء المسؤولية إن لم يكن المصنع المنتج لذاك الجيل -الذي هو أنت- مؤهلًا ومزودًا بكل وسائل الانتاج الناجحة والمناسبة؟ وكيف نعقد آمالنا على الأجيال إن لم تكوني أنت من يقف وراءها ويرعى مسيرة نهضتها ويكون لها القدوة والمعلم والمربي والموجه والمرشد بالإضافة لجرعات الحنان التي تشحنينها بها لتستمد بالطاقة والقوة والعطاء. ترجو السلامة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
فالأمومة ليست بالحنان فقط، وليست بالعطاء فقط، وليست بالتضحية فقط، إنها بالإضافة لهذا الخليط من المشاعر النبيلة، مدرسة يتخرج منها الأبناء، إنها المصنع الذي ينتج للأمة الصناعات الجيدة القادرة على نهضتها ورفعتها، إنها رسالة لا تختصر بوصف أو تُحاط بعبارة.
فدورك لا يقتصر على الرعاية الجسدية فقط، بل يمتد ليشمل الأبناء فكرًا وخلقًا وسلوكًا.
فأي الأمهات أنت؟ هل أنت من الأمهات اللواتي فهمت الواحدة منهن أن دورها يتمثل في التربية الراشدة التي تقوم على التوازن بين الرعاية الجسدية والتربية الروحية والتوجيه السلوكي والاحتواء العاطفي؟ أم أنت من الأمهات الحاضرات الغائبات القريبات البعيدات اللواتي فهمن معنى الأمومة على أنها القيام على خدمة الأبناء وتوفير احتياجاتهم والعمل على تلبية رغباتهم فقط، وأما احتياجاتهم النفسية، وأما احتياجاتهم المعنوية، وأما تغذية أرواحهم، فيبدو أن ذلك خارج نطاق الاهتمام إن لم يكن في زوايا الإهمال واللامبالاة، لينشأ الأبناء والبنات على قاعدة تربوية هشة عاجزة عن حمايتهم من الانزلاقات السلوكية التي ممكن أن يتعرضوا لها في مشوار حياتهم، بل عاجزة عن حمايتهم من أي عارض قد يتربص بهم، عندها تكون فعلًا كارثة تربوية بحقهم بل هو عقوق لهم، فأي جيل، وأي مستقبل لهذا الجيل، بل أي غد للأمة إذا لم يتغذ أفرادها على التربية الدينية الإسلامية ومنذ نعومة أظفارهم؟!
فكم هي الزفرات والأنات المنفوثة من صدور مكلومة لآباء وأمهات أصابتها سهام عقوق الأبناء، وكم هي الشكاوى التي تبثها العديد من الأمهات بأنهن فقدن السيطرة على أبنائهن وبناتهن الذين ركبوا مراكب العصرية والحرية بوجهها الكالح الممسوخ، فلا ابن يسمع كلام أبيه ولا بنت تطيع أمها وكل في فوضى يسبحون، وهذه نتيجة طبيعية ولا غرابة فيها، إذ أن غياب التربية الإسلامية لدى الكثير من الآباء والأمهات لا يؤدي فقط إلى تغريب الأبناء وانجرافهم نحو تيارات فاسدة مضلة، بل هو صفعة قوية على وجوه ذويهم وأهليهم الذين يكونون أول من يتلقى ضربات عقوقهم، فالتربية الدينية هي البوصلة التي توجه سلوك الأبناء وتضبط تصرفاتهم وتجعلهم أكثر قدرة على التمييز بين الخير والشر وأكثر قدرة على مقاومة المؤثرات السلبية.
قد تقولين أيتها الأم الفاضلة، إنك ما تركت وسيلة من والوسائل تقنعين بها أبناءك وبناتك بالالتزام بالقواعد الشرعية في سلوكهم ومعاملاتهم إلا وعملت بها ولكن دون جدوى، متذرعة بذرائع أن هذا الجيل عنيد جدًا ولا يسمع الكلام، وإن تربية الأبناء في هذا الزمن الصعب، من أصعب المهام والمسؤوليات وأثقلها، وهذا صحيح ولا يخلو من الحقيقة والموضوعية، ولكنك أيتها الأم ومثلك الكثير من الأمهات، قد تنبهت وفطنت أن هناك تربية إسلامية يجب أن ينشأ عليها الأبناء ولكن في وقت متأخر بعض الشيء، وقد تشكلت شخصياتهم وتأثرت بمؤثرات مختلفة إيجابية منها وسلبية، لذا فإن اتباع منهج تربوي جديد لإحداث تغيرات في شخصياتهم ونفوسهم لن يكون بالأمر السهل، ولكنه ليس بالأمر المستحيل، وكان الأولى بك أن تنتبهي لهذا الأمر وترضعين أبناءك من أصول التربية الإسلامية مع الحليب وهم صغار.
وقد تكونين أيتها الأم الفاضلة من الذين يتركون الحبل على غاربه في تربيتهم للأبناء، حيث تمنحين لابنك استقلالية مبالغًا فيها، فلا رقابة على ما يتابعه على شاشته الصغيرة على مواقع التواصل، وأنت تعلمين علم اليقين المحتويات الهدامة التي تبثها هذه المواقع، وهنا تكمن الكارثة، ولا تعرفين من أصحابه، أو الأماكن التي يرتادها بعد دوامه المدرسي، حتى الكتب والمجلات والصور التي أخفاها في حقيبته المدرسية لا تعلمين عنها شيئًا أو بالأحرى لا تريدين أن تعلمي عنها شيئًا بحجة أن الولد يجب أن يُعطى الحرية والاستقلالية ليختار بنفسه ويقرر بنفسه لتكون شخصيته قوية. نعم يكون ذلك بحضورك، بتربية منك راشدة واعية مدركة لكل المخاطر التربوية التي ترمي بسهامها مستهدفة أخلاقهم، يكون ذلك بقدوة حسنة هي أنت، يقلدونك في أفعالك وسلوكك، فالأبناء يتأثرون مما يرونه أكثر مما يسمعونه، ولا يكون ذلك بعيدًا عن حضورك ومراقبتك وتوجيهاتك وإرشادك، فكيف يكون حال الأبناء إذا نشأوا تحت كنف أم هي في وادٍ وهم في واد آخر، لتجد نفسها في النهاية أمام حقائق مرعبة تبكي لهولها دمًا لا دموعًا، لتجد ابنها قد انحرف عن الجادة وابنتها تتخبط في تصرفاتها وسلوكها، لتصرخ بأعلى صوتها ماذا كان ينقص الأولاد وقد منحتهم كل شيء، كل شيء، لتكتشف بعد فوات الأوان، أن الأولاد كانت تنقصهم أم لم تع دورها حق الوعي، ولم تؤد رسالتها بالشكل الذي يجب أن يكون، والنتيجة خلل في الانتاج، وعطب في الثمار، وأجيال تترنح كقشة في مهب الريح، والواقع يعج بالشهادات الحية المرعبة لأبناء ضاع مستقبلهم في لجج الضياع والتيه.
وحيث بدأنا نختم، أي الأمهات أنت؟ سؤال تجيب عنه الأيام، وتكشفه المواقف، هي بصمة في مسيرة الأبناء إن صلحت صلح بهم الغد وأشرق، وإن أخلصت أنجبت للحياة نورًا لا يخبو وأثرًا لا يزول…. وإلا…

