أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

مواجهة العنف: بين وازع الإيمان ورادع السلطان

الشيخ كمال خطيب
صحيح أننا بشر ومن بني آدم ولسنا معصومين كما قال النبي ﷺ: “كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون”، وصحيح أننا يمكن أن نرتقي بإيماننا وأخلاقنا حتى نكاد نصل إلى مرتبة تفوق مرتبة الملائكية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} آية 7 سورة البينة، ولكننا بالمقابل يمكن أن نتردى بأخلاقنا وسلوكياتنا فنصبح أسوأ من الشياطين مرتبة ومنزلة وقد قال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} آية 6 سورة الممتحنة. نحن إذن تتنازعنا معاني الخير ومعاني الشر وتتجاذبنا الملائكية والشيطنة.
وعليه فإنها عناصر الخير والفضيلة تساهم في رفع منسوب الخير والملائكية، وإنها كذلك عناصر الشر والرذيلة تساهم في رفع منسوب الشر والشيطنة. وإن تعاليم القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ هي أهم وسائل تعزيز معاني الإيمان ورفع منسوب الخير والرحمة فينا وفي علاقاتنا مع غيرنا، وهي التي تشكل صمام الأمان لنا والكابح الذي يكبح جماح معاني الشر والرذيلة وما يوازيها من معاني الظلم والفساد.
إنه وعلى الرغم من دلالات معاني ورسائل القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ في إيقاف النفس البشرية عند حدودها، إلا أن هناك من يتجاوزون ويتعدّون حدود الله سبحانه {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} آية 229 سورة البقرة. {ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} آية 1 سورة الطلاق. فإذا لم ينجح وازع الإيمان في كبح جماح نفوس بعضنا وإيقافها عند حدود الله تعالى، عندها فلا بد لمثل هؤلاء من رادع السلطان وسطوته ليحول بينهم وبين تعدي حدود الله، وبين التردي والايغال في الشر، ولقد قال في هذا سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

وازع الإيمان
إنه الله سبحانه وتعالى الذي حبّب إلينا خلق العفو والتسامح لمّا قال سبحانه {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} آية 199 سورة الأعراف. {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} آية 40 سورة الشورى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} آية 34 سورة آل عمران. وإنه النبي ﷺ يعلمنا ويحثنا على خلق العفو وسعة الصدر لمّا قال ﷺ وقد سئل: “يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال كل مخموم القلب صدوق اللسان. فقيل صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغيّ ولا غلّ ولا حسد”.
وهو القائل ﷺ: “من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم”. وهو القائل ﷺ: “من اعتذر إلى أخيه المسلم بمعذرة فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس”. وهو القائل ﷺ: “من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره أي الحور العين شاء”. وهو القائل ﷺ: “ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات. قالوا: نعم يا رسول الله. قال تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك وتصل من قطعك”.
إنه ﷺ من أشاع فينا وحبّب إلينا خلق الرحمة لما قال: “المؤمن هيّن ليّن سهل”. وهو القائل ﷺ: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”. وهو القائل ﷺ: “لن تؤمنوا حتى ترحموا. قالوا يا رسول الله كلنا رحيم. فقال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة”.
لقد لخّص المرحوم الشيخ محمد الغزالي معاني هذه الأحاديث الشريفة بمقولته الرائعة: “الإسلام يريد رجلًا جيّاش العاطفة بالعطاء، صادق الحسّ بآلام الغير، ينطلق كالسهم في تفريجها دون توقف، ولو كان يتعامل مع غير أبناء دينه. إن النبع السيّال لا يحبس برّه عن محتاج”.
وعلى هدي القرآن الكريم وهدي الرسول ﷺ كانت أخلاق وسلوكيات الأئمة والاعلام والعظماء من رجالات الأمة يظهر لنا من خلال أقوالهم وسلوكياتهم كيف أثّر فيهم وازع الإيمان وتربية القرآن، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله وقد تطاول عليه سفيه من السفهاء وأغلظ عليه بالقول، فقال له بعض الناس: يا إمام إن شئت أدبناه، وإن شئت يأتيك إلى البيت معتذرًا، وإن شئت شكونا للخليفة. فقال الإمام الشافعي: اعلموا وأعلموا الناس أن الشافعي قد تصدّق بعرضه على المسلمين، فأيما مسلم وقع في عرضي فإني سامحته وغفرت له ذلك لعل الله أن يعفو عني وأن يغفر لي بذلك ذنبي”. وهو القائل رضي الله عنه:

سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة والغلط
وتجاف عن تعنيفه إن زاغ يومًا أو قسط
واعلم بأنك إن طلبت مهذبًا رمت الشطط
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

وقد سبق الشافعي لهذه الأخلاق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد خرج إلى السوق فسُرقت دراهمه ودنانيره، فجعل الناس يدعون على السارق أما هو فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم إن كنت تعلم أن الذي سرق نقودي بحاجة لها فبارك له فيها، وإن كنت تعلم أنه في غير حاجة لها فاجعلها اللهم آخر معصية يعصيها”. إنه في الوقت الذي كان فيه من يرتقون بإيمانهم وأخلاقهم حتى كأنهم ملائكة تمشي على الأرض أو كما وصف أصحاب النبي ﷺ بأنهم كانوا مصاحف تمشي على الأرض، في الوقت الذي كان فيه أمثال هؤلاء فإنه كان هناك من يشتم ويتطاول ويسرق بل وحتى ويزني لكن أخلاق الخير في المجتمع غلبت أولئك الأشرار، فظلّ المجتمع فاضلًا صالحًا حتى أن الشهيد سيد قطب قد وصف ذلك الجيل في فصل أسماه “جيل قرآني فريد”.

رادع السلطان
لكن ومع تغير الزمان والأحوال ومع ضعف وازع الإيمان وتلاشي معاني القرآن فإنها تظهر في المجتمع بين الناس سلوكيات الفساد والظلم والقتل والسرقة والزنا وغيرها وعند ذلك فإنه لا بد من رادع السلطان يعوّض رادع الإيمان ويؤدب أولئك الذين يفسدون في المجتمع.
فإذا كان من الناس كما قال سيدنا عثمان من لا يردعهم القرآن فلا بد أن يردعهم سوط السلطان “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. وقد قال الشاعر:
وليس يزجركم ما توعظون به والعير يزجرها الراعي فتنزجر
وإنه التاريخ يعرفنا ويوقفنا في محطات كثيرة كيف أن الشعوب والأمم ومع غياب وازع الإيمان فإنه يكثر الفساد والظلم حيث لا مفر عندها من استخدام رادع السلطان وسوطه.
وإنهما فترتان تاريخيتان متشابهتان في حياة الأمة تظهران حجم السقوط والتردي الاجتماعي والأخلاقي والأمني وقد وصل إليه الناس، الأولى قبيل احتلال الصليبيين لبلاد المسلمين، والثانية وهي امتداد للأولى خلال الاحتلال الصليبي وسياساته في إفساد الحالة الاجتماعية والأخلاقية لتكون وسيلته بالسيطرة على المسلمين.
ففي العام 1090 أي قبيل احتلال القدس بتسع سنوات فقد ظهرت الحركات الباطنية وأشهرها كانت الإسماعيلية “الشيعية” وكان هدفهم إفساد عقيدة الناس حيث شكّلوا لهم أجنحة عسكرية وفرقًا للموت اغتالت العلماء والوزراء والسلاطين وكانوا يسمون “الحشاشين” لأنهم كانوا يعطون الرعاع المخدر والحشيش حتى إذا دار برؤوسهم طلبوا منهم فعل ما يريدون. وإننا لا نتردد في القول إنها علاقة مباشرة اليوم بين عصابات السلاح والقتل وبين ترويج المخدرات حيث العلاقة وثيقة بينهما.
قال الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتاب – هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس- “فقد انشغل الناس عن قضايا الأمة الكبيرة بالانشغال في الغذاء والكساء والبيوت، حتى قال أبو شامة: كانوا كالجاهلية همُّ أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وكثر الفساد واللهو والزنا والجواري والملاهي، وانتشرت ألعاب مصارعة الحمام والديكة”.
كانوا يهملون الفرائض وينشغلون بالنوافل، يخرجون للحج دون سداد الديون ودون استرضاء الوالدين، يذهبون لأداء ركن الحج ويقصّرون في أداء ركن الصلاة. ولقد شكل اللصوص جماعات تمردت على جنود الخليفة وربما وصل الأمر إلى احتلال أجزاء من بغداد. ولقد استمر الحال بالتردي الأخلاقي والاجتماعي وكان كل ذلك يصب في مصلحة الاحتلال الصليبي لاحقًا، حتى أن محاولات الإصلاح التي كان يقوم بها عماد الدين زنكي وابنه نور الدين كانت تصطدم بهذا الواقع الاجتماعي والأخلاقي الصعب، تمامًا كما هو حال شعبنا اليوم الذي يراد إشغاله بفوضى السلاح وجرائم القتل وانتشار المخدرات والموبقات حتى لا ينشغل ولا يكون بمقدوره التفكير باسترداد حقوقه المسلوبة وأوطانه ومقدساته المغصوبة وفي مقدمتها القدس الشريف والأقصى المبارك.
ولأن رادع السلطان لا بد منه خلال مثل هذه الظروف من ضعف الإيمان فإنه وإلى جانب النشاط الدعوي والحملات الإيمانية والمدارس الدعوية والنهضة العلمية التي كان يقوم عليها العلماء الأجلّاء أمثال الشيخ العز بن عبد السلام والشيخ عبد القادر الجيلاني ومدرسته في الإصلاح، والذي كان لا يتردد بانتقاد علماء السلاطين الساكتين عن أداء دورهم بالقول: “يا خونة العلم والعمل، يا أعداء الله ورسوله، يا قاطعي عباد الله عز وجل، أنتم ظلم ظاهر ونفاق ظاهر، هذا النفاق إلى متى؟”. وكان ينتقد الأمراء الفاسدين والحكام المتواطئين مع الصليبيين بالقول: “إذا عَظّمت جبابرة الدنيا وفراعينها وملوكها وأغنياءها ونسيت الله عز وجل فلم تعظمه، فحكمك حكم من عبد الأصنام تعيّر من عظمة صنمك”.
نعم فإلى جانب الصحوة الدينية هذه وتقوية وازع القرآن والإيمان إلا أنه كان لا بد من وازع السلطان وسوطه، فقام نور الدين زنكي رحمه الله بتكليف صلاح الدين برئاسة شرطة دمشق لتطهيرها من عبث اللصوص وجماعات الإجرام والفساد التي خيمت بسطوتها على أهل دمشق، وهناك ظهرت براعة صلاح الدين وقدراته العسكرية الفذة التي مهدّت له الطريق للقيادة العسكرية وصلت إلى حد قيادته جيوش نور الدين بل واستلام السلطنة بعد موته وإكمال المسيرة لفتح القدس بعد هزيمة الصليبيين في معركة حطين.
لقد سُرّ أهل دمشق وفرحوا بخبر تعيين يوسف صلاح الدين لرئاسة شرطة دمشق لمواجهة عصابات اللصوص والقتل والمخدرات، حتى أن الشاعر حسان بن نمير قال في ذلك:

رويدكم يا لصوص الشام فإني لكم ناصح في المقال
أتاكم سميّ النبي الكريم يوسف رب الحجا والجمال
فذاك يقطع أيدي النساء وهذا يقطّع أيدي الرجال

هكذا إذن تكون القاعدة في التغيير أنه لابد من وازع القرآن والإيمان ليحدث في الناس التغيير الإيجابي، ولكن ولأن هناك من لا يستجيبون لهذا الوازع فكان لزامًا استخدام الرادع لردع المتطاولين
والعابثين يزجرون زجرًا ويردعون ردعًا ويقتص منهم عند تجاوزهم حدود الله سبحانه وهو الذي قال {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} آية 179 سورة البقرة. وقال عن إقامة حد الزنا على من ثبت عليهم ارتكابه {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} آية آية 2 سورة النور.
أما وإن واقعنا نحن أبناء الداخل الفلسطيني حيث اعتمدت المؤسسة الإسرائيلية أسلوب الإفساد والتخريب الفكري والأخلاقي والاجتماعي بكل وسائلها المتاحة وما أكثرها، وفي مقدمة ذلك ما تحدثنا عنه قبل أسبوعين عبر مشاريع الأسرلة ومسخ الهوية الفكرية والثقافية والاجتماعية، ثم أسلوب التفتيت عبر سياسة انفلات السلاح وغض الطرف عن عصابات الإجرام والمخدرات تمامًا كما فعل الصليبيون خلال احتلالهم لبلاد المسلمين.
ولأنه في هذه الحالة لا بد من استخدام رادع السلطان للضرب على يد العابثين، وهذا ما لن يكون لأن رادع السلطان تملكه الحكومة الإسرائيلية ويستخدم لحماية المفسدين والقتلة والعابثين وليس لردعهم لذلك فعلينا أن لا نبني آمالًا على تحرك هؤلاء ليظل المطلوب على الأقل فيما هو متاح بين أيدينا أن نتحرك ونعمل ونستخدم وازع الإيمان والقرآن والعادات والأخلاق ومخاطبة الضمير، وأن نبذل كل الجهد في مشاريع الإصلاح الاجتماعي بكافة وسائلها للتقليل من ضرر هذه السياسة الظالمة التي تمارسها بحقنا المؤسسة الإسرائيلية علّ الله سبحانه أن يهيئ لنا ظروف الخلاص مما نحن فيه.

اللهم قد أصبحت أهواؤنا شيعًا فامنن علينا براع أنت ترضاه
راع يعيد للإسلام سيرته يرعى بنيه وعين الله ترعاه

أو كما قال الشاعر الآخر:
يا رب يسّر قائدًا لا ينثني ويكون في يمنى يديه المخرج
يعدو بخيل عاديات جربت فخيول من سبقوه كانت تعرج
مهما تطل أيام ظلم عدونا مهما بدا أن المسالك ترجح
فبلادنا بالفاتحين خصيبة وستنبت البطل الجسور وتنتج

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى