أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

في ذكرى استشهاد حسن البنا.. اللهم إنا أحببنا الرجل فيك ومن أجلك

الشيخ كمال خطيب
في مثل مساء هذا اليوم 12/2/1949، وقبل اثنتين وسبعين سنة كانت سبع رصاصات تستقر في جسد الإمام الشاب الأستاذ حسن البنا، أطلقها رجال مباحث الملك فاروق في قلب مدينة القاهرة، وذلك بعد أن صدرت الأوامر من حكومة بريطانيا عبر سفارتها وحاكمها العسكري وهو الحاكم الفعلي لمصر يومها. لقد جاءت عملية الاغتيال بعد شهرين من قرار حظر جماعة الإخوان المسلمين يوم 8/2/1948 واعتقال منتسبيها ومصادرة ممتلكاتها وإغلاق مقرّاتها، وذلك بعد عودة آلاف متطوعيها من الحرب في فلسطين وقد تمت صفقة الخيانة.
دفن حسن البنا ليلًا وقد حملت النساء نعشه حيث لم يسمح للرجال بتشييعه ودفن تحت أطباق الثرى، وقد ظن المجرمون والقتلة أن جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا ستموت بموته وتدفن بدفنه وما عرف هؤلاء أن دماء الشهداء إنما هي الوقود الذي يدفع ويحرك الطاقات الكامنة، وهو ماء الحياة لأفكار هؤلاء التي عاشوا وماتوا لأجلها.
حسن البنا هذه الشخصية الفذّة التي سبحت بعكس التيار بعد سقوط الخلافة الإسلامية بخمس سنوات فقط – 1928 يوم قام بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين سعيًا منه لتكون هذه الجماعة بفهمها الوسطى والشمولي، الوسيلة التي من خلالها يتم العمل في خدمة الإسلام على أمل إعادة الخلافة الإسلامية ويعود المسلمون أمة واحدة. فمن يكون هذا الشاب ابن الثانية والعشرين يوم أسس تلك الجماعة واستشهد وهو ابن 43 سنة. فأي صفات وأي قدرات وأي مزايا، بل وأي مواهب ربانية أوتيها ذلك الشاب حتى استطاع خلال عشرين سنة فقط أن يرسم ملامح مستقبل مصر بل الأمة وتتحقق تلك الملامح.

لحسن البنا من اسمه نصيب
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى: “في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور وحكمة مدبرة في كتاب مسطور. حسن البنا إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه، ولكن من يقول إنها مصادفة؟ والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء، وإحسان البناء، بل عبقرية البناء.
ومضى حسن البنا إلى جوار ربه، يمضي وقد استكمل البناء وأسسه، يمضي فيكون استشهاده على النحو الذي أريد له: عملية جديدة من عمليات البناء، عملية تعميق للأساس، وتقوية للجدران، وما كانت ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتُلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق.
إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة، وحينما سلّط الطغاة الأقزام الحديد والنار على الإخوان كان الوقت قد فات، كان البناء الذي أسسه حسن البنا قد استطال على الهدم، وتعمّق على الاجتثاث، كان قد استحال فكرة لا يهدمها الحديد والنار، فالحديد والنار لم يهدما فكرة في يوم من الأيام، واستعلت عبقرية البناء على الطغاة الأقزام، فذهب الطغيان وبقي الإخوان.
ومرة بعد مرة نزَت في نفوس بعض الرجال من الإخوان نزوات، وفي كل مرة سقط أصحاب هذه النزوات كما تسقط الورقة الجافّة من الشجرة الضخمة، أو انزوت تلك النزوة، ولم تستطع أن تحدث صدعًا في الصفوف.
ومرةً بعد مرة استمسك أعداء الإخوان بفرع من تلك الشجرة، يحسبونه عميقًا في كيانها، فإذا جذبوه إليهم جذبوا الشجرة أو اقتلعوها، حتى إذا آن أوان الشدّ خرج ذلك الفرع في أيديهم جافًّا يابسًا كالحطبة الناشفة، لا ماء فيه ولا ورق ولا ثمار. إنها عبقرية البناء، تبقى وتمتد بعد ذهاب البناء.

له قلب علي وعقل معاوية
يقول الأستاذ محمد عبد الحميد وكان من أوائل الطلبة الجامعيين الذين استجابوا لدعوة الإمام حسن البنا وارتبط بجماعة الإخوان المسلمين وبنى جهازها الطلابي فكان يعرف “بأبي الجامعيين” فقال في وصفه لشخصية الإمام البنا: “وبعد: فقد ولد الإمام الشهيد عام 1906 بعد وفاة الإمام محمد عبده بعام واحد، وبدأت دعوته سنة 1928 بعد وفاة سعد زغلول بعام واحد، فأضفى على دعوة الإمام محمد عبده عنصر “الجندية” وإلى دعوة سعد زغلول عنصر” الإسلامية” وبذلك يُعدّ هذا الجيل الإسلامي الناشئ النسخة الإسلامية الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الإسلامي الأول في عهد الرسول ﷺ. ورحم الله الفيلسوف الإسلامي طنطاوي جوهري فقد حدّثني أن حسن البنا في نظري أعظم من الأفغاني ومحمد عبده أنه مزج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنه يحمل قلب علي وعقل معاوية”.

صيّاد الرجال
أمّا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فيقول عن الإمام الشهيد حسن البنا: “التقيت بالإمام الشهيد لأول مرة وأنا طالب في معهد الإسكندرية وكنت شابًا تجتذبني دواعي التقى والعفاف، وتتناوشني مفاتن الحضارة الوافدة من وراء البحار. فكانت الغرائز المستثارة تدخل في مضطرب مائج مع إيحاء الإيمان الموروث واتجاهات الدراسة التي نتلقاها في علوم الدين ونحن جيل مخضرم تلتقي في حياتنا تيارات متعارضة وما كان يعلم إلا الله سبحانه ما يجول في قلوبنا وألبابنا من أسى وتعقيد وقد أورثتني معاناتي السابقة لهذه الأحوال تقديرًا لمشاكل الشباب ورقّة شديدة لما يمرون به من أطوار.
ثم أدركت أن الوعظ المجرد والتعليم العابر لا يجديان كثيرًا، وعندما استمعت إلى حسن البنا لأول لقاء تكشفت لي أمور كثيرة لابد منها في صحة إبلاغ الرسالة وإمكان النفع الكامل بها، فليس الداعية إلى الله أداة ناقلة كالآلة التي تحمل سلعة من مكان إلى مكان، وليست وظيفته أن ينقل النصوص من الكتاب والسنة إلى آذان الناس ثم تنتهي بعد ذلك مهمته. لقد كانت لدى حسن البنا ثروة طائلة من علم النفس وفن التربية وقواعد علم الاجتماع وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير وقيم الأفراد وميزان المواهب وهذه بعض الوسائل التي تعين على الدعوة وليست كلها.
إن القذيفة قد تنطلق كاملة العناصر تامة القوة، ولكنها تقع بعيدة عن مرماها فتذهب هدرًا. وما أكثر الخطباء الذين يرسلون من أفواههم حكمًا بالغة تنطلق هنا وهناك كما ينطلق الرصاص الطائش لا يصيب هدفًا ولا يدرك غرضًا، وحسن البنا كان موفقًا في اصطياد الرجال وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم، وذلك أمر يرجع إلى فضل الله أكثر مما يرجع إلى المهارة الخاصة واختيار الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع يمكن أن يقال فيه {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ} آية 17 سورة الأنفال، وعلى صخرة العلاقة بين الفرد وربه كان البنّاء حسن يجمع اللبنات الجديدة لإعادة ما انهدم من أركان الحكم الإسلامي النظيف.

هذا شاعر فحل
كان من عادة الإمام حسن البنا أن يزور مراكز الدعوة يتفقدها مرشدًا وموجهًا، وفي إحدى الزيارات كان الشاب يوسف القرضاوي الطالب في المدرسة الثانوية في طنطا أحد الحاضرين حيث نظّم قصيدة من خمس وعشرين بيتًا ألقاها في حفل استقبال البنا في ذلك الاحتفال نجتزئ منها هذه الأبيات:

يا مرشدًا قاد بالإسلام إخوانًا وهزَّ بالدعوة الغراء أوطانا
يا مرشدًا قد سرت بالشرق دعوته فقام بعد منام طال يقظانا
فكان للعرب والإسلام فجر هدًى وكان للغرب زلزالًا وبركانا
ربَّيت جيلًا من الفولاذ معدنه يزيده الضغط إسلامًا وإيمانا
أردت تجديد صرح الدين إذ عبثت به السنون فهدّت منه جدرانا
ترميك بالإفك أقلام وألسنة خانت أمانتها يا بئـس من خانا
ودع أذاهم وقل موتوا بغيظكم فالغرب مولاكمو والله مولانا

فلما سمع الإمام الشهيد حسن البنا قصيدة الشاب يوسف القرضاوي قال: “هذا شاعر فحل”. ليس أن فراسة الشهيد البنا قد صدقت في القرضاوي فكان شاعرًا فحلًا له دواوين شعر وقصائد غنّاها وأنشدها شعراء ومنشدون من شرق الأرض إلى غربها وإنما كان أكثر من ذلك أسأل الله أن يختم له بالصالحات فكان فقيه الأمة وعالمها، وما يزال صاحب مئات الكتب في خدمة الإسلام ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين السابق، بل كان خطيب يوم الجمعة الذي سقط فيه الطاغية حسني مبارك 25/1/2011.

حسن البنا ومكرم عبيد باشا
مكرم عبيد هو أحد الزعماء المسيحيين في مصر، وأحد أقطاب حزب الوفد أيام سعد زغلول أحد رجال الحركة الوطنية أيام الاحتلال البريطاني، وهو المصري الوحيد الذي شارك في جنازة الإمام الشهيد حسن البنا حيث منع الرجال من تشييعه وإنما شيّعته النساء تمامًا كما فعل السيسي المجرم بجنازة الشهيد محمد مرسي والشهيد محمد مهدي عاكف المرشد السابق للإخوان المسلمين والذي توفي في سجون السيسي ومثلهم المرحوم الشهيد عصام العريان وآخرين، وقد قال مكرم عبيد لاحقًا في اغتيال الشهيد حسن البنا:
“أي نعم، فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون، قد فقدتم الحاكم الأكبر، الخالد الذكر، فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذى أسلم وجهه لله حنيفًا قد أسلم روحه للوطن عفيفا، حسبكم أن تذكروه حيًا في مجده، كلما ذكرتموه ميتًا في لحده.
وإذا كان الموت والحياة يتنازعان السيطرة في مملكة الإنسان، ويتبادلان النصر والهزيمة فيتساويان فالغلبة للحياة مع الذكرى وللموت مع النسيان، ولهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته، والحي ميت لديك إذا نسيته.
وما من شك أن فضيلة الشيخ حسن البنا هو حي لدينا جميعًا في ذكراه، بل كيف لا يحيا ويخلد في حياته رجل استوحى في الدين هدى ربه، وفي الآخرة وحي قلبه.
إخواني أي نعم فأنتم يا أيها الإخوان المسلمون، أنتم إخواني وطنًا وجنسًا بل إخواني نفسًا وحسًا، ما أقربكم إخوانًا لأنكم في الوطنية إخواني إيمانًا، ولما كانت الوطنية من الإيمان فنحن إذن إخوان في الله الواحد المنان”.

يا رب إنا أحببنا الرجل من أجلك
يقول المرحوم الأستاذ عمر التلمساني والذي أصبح لاحقًا المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين بعد وفاة الأستاذ حسن الهضيبي: “وبعد فإن الإمام الشهيد حسن البنا المرشد الأول للإخوان المسلمين لم تكن كل أعماله وأقواله تكسبًا أو اكتسابًا، ولكنه كان موهوبًا. كان من الرجال الذين يعلم الله قدرتهم على السير بدعوته فيمدهم بمدد من عنده لا يلقاه إلا ذو حظ عظيم. ألا تعلم أنه قد استقرت في جسده سبع رصاصات فنزل من السيارة على قدميه ينزف دمًا طاهرًا زكيًا، فاتصل بنفسه بالإسعاف وجاء الإسعاف فركب بالسيارة بنفسه والدم يتدفق، ولما وصل مستشفى القصر العيني صدرت أوامر الفاروق ألا يُسعف واستجابت ملائكة الرحمة المزعومة لتنفيذ هذا الظلم الصارخ حتى سكتت الحركة الدائبة وكفّ القلب المعلق بالعرش عن النبض في هذه الدنيا لينبض في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
يا رب إنك تعلم أننا أحببنا الرجل من أجلك وسرنا وراءه في الطريق الذي رسمه رسول الله ﷺ، حتى إذا بلغ بنا ذلك الرجل من حب دينك وحب رسولك ما نتمنى معه أن نكون عند قول رسولك الحبيب ﷺ: “من أشد أمتي حبًا لي يكونون من بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله”. اللهم إننا نحسّ أننا كذلك فأتمم نعمتك علينا واجز حسن البنا بما أنت أهل له ففضلك لا حدود له {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}”.

حسن البنا يرسم معالم الطريق
قال رحمه الله مصارحًا إخوانه عما سيعترضهم في طريقهم في مشقات الدعوة ووعورة الدرب فقال: “أحب أن أصارحكم، إن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم الكثير من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فما زلتم مجهولين وما زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم.
وتدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان فتسجنون وتعتقلون وتشردون وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} آية 2 سورة العنكبوت، لكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} آية 10-13 سورة الصف. فهل أنتم مصرّون على أن تكونوا أنصار الله؟!
في ذكرى استشهاد الإمام البنا الثانية والسبعين، فإننا نقول: لقد مضى فاروق وعبد الناصر والسادات وحسني مبارك، وسيمضي السيسي وبشار وبن زايد وبن سلمان وتبقى دعوة وجماعة الإخوان المسلمين. لقد استشهد البنا وبقي البنّاء.
وعلى هدي مقولة الأستاذ التلمساني، فإننا نقول: اللهم إننا أحببنا هذا الرجل من أجلك، فاجمعنا اللهم به مع من نحب جميعًا سيدنا وحبيبنا محمد ﷺ تحت ظل عرشك وعندك يا ملك يا مقتدر يا رب العالمين.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى