أخبار عاجلةمقالاتومضات

الانتقاد مهارة قلّ من يتقنها

ليلى غليون
الكثير من الناس من لا يتقن مهارة الانتقاد، بل يتقن فنّ توجيه الملاحظات السلبية للغير، بل تجد لسانه وقد انطلق فجأة ينتقي من الكلمات الجارحة المؤذية السليطة بحجة أن نواياه حسنة ولا يبغي من وراء انتقاده اللاذع، سوى الاسهام في تصحيح الاعوجاج وتقويم الاخطاء، ولا أبالغ لو قلت إن هناك من يتعمد البحث والتنقيب في أعمال الغير وتصرفاتهم لعله يجد خطأ ما أو زلة ما ليقوم على الفور بإطلاق صواريخ انتقاداته التي قد تسبب لهم الاحراج أو الشعور بالمهانة، ولعله بذلك يكون قد أشبع غريزة حب الانتقاد أو حب الظهور في ذاته أو لعله يستهدف من وراء ذلك أن يسمو بنفسه مقابل أن يحط من شأن الآخرين.
فأسلوب النقد اللاذع أو السخرية والتجريح، مقدمة لنزع الثقة وإشعال نار الكراهية وبذر الخصومات بين الأفراد، لأن فيه تعديا فاحشا على الاحاسيس والكرامة وتقدير الذات، ويذكر ابن مسكوية في كتابه (تهذيب الاخلاق): (فإن هؤلاء يستحقر بعضهم بعضا، ولا يزال يصغر بصاحبه ويزدري على مروءته، ويتطلب عيوبه ويتتبع عثراته حتى يؤدي بهم الحال إلى العداوة التامّة وتجاوز ذلك إلى سفك الدم وأنواع الشرور).
فالنقد مطلوب وهو أرضية صلبة تنطلق منها المجتمعات والافراد نحو العلا، ولكن بأسلوب هادف بناء وبكلمات محببة منتقاة تبث في نفس السامع دفء الثقة بالنفس تشجعه وتدفعه نحو التقدم في مسيرته، ولا تكون أبدا حجر عثرة يعرقل طموحه ويشوش نفسيته او تساهم بإيذاء مشاعره وأحاسيسه. وما أعظمه من أسلوب ذاك الذي كان يستخدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي من خلاله كسب القلوب قبل أن يكسب المواقف فقد كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا …)، دون أن يوجّه نقدا مباشرا لأحد، احتراما لمشاعره وإنقاذا لماء وجهه، وقد خرج الفاروق عمر بن الخطاب ذات ليلة يتفقد أهل المدينة فرأى نارا مشتعلة في خباء فتوقف ناحية الخباء ونادى: (يا أهل الضوء)، نعم لقد قال يا أهل الضوء، ولم ينادهم يا أهل النار، ناداهم بكلمات رقيقة ليس فيها خدش ولا تعكير لمزاج أو تعكير لصفاء القلوب. هكذا المسلم يزن كل كلمة تخرج منه قبل أن ينطقها ليضعها في مكانها المناسب، وهذه هي المهارة واللباقة في معاملة الآخرين للاستيلاء على محبتهم واحترامهم، فللكلمات الرقيقة أثر كبير وفعال في تحقيق جو يتسم بالمحبة والألفة، كما إنها تعطي انطباعا جميلا وشعورا بالارتياح لدى الشخص الذي قمت بانتقاده بأنك ما قدمت له هذا الانتقاد رغبة بالهجوم عليه، وإنما من منطلق النصح والإرشاد المنبثق من الأخوة والمحبة والغيرة على مصلحته، وهذه المهارة قل من يتقنها، بل في كثير من الاحيان يكون النقد تجريحا أو سخرية أو للتشفي، أو في أحسن الحالات يكون بأسلوب خال من الرفق واللين والرصانة، وفي هذا يقول الرصافي:
ملأنا الجو بالجدل اصطخابا
وكنا قبل نملؤه هتافا
وما زلنا نهيم بكل واد
من الأقوال نرسلها جزافا
نعم، إن الاقوال والانتقادات الجارحة التي نطلقها يمينا وشمالا وبدون مراعاة لمشاعر، قد تكون أقوى من الرصاص، فالرصاص قد يخترق جسم الانسان ويبقى هذا الانسان على قيد الحياة، ولكن رصاصة الكلمة الجارحة لا بد وأن تصيب الروح في مقتل لتجهز على العلاقات بين الافراد وتمزق النسيج العاطفي والاجتماعي بينهم، أو حتى تجعل من هذا الرصيد صفرا او تحت الصفر، يقول الكاتب اكرم عثمان في كتابه: (كيف تنتقد الآخرين وتستولي على محبتهم واحترامهم): (إن الرصيد العاطفي أهمّ بكثير مما يُسمّى بالرصيد المصرفي، وهو أشبه له إلى حد ما، فبإمكانك ايداع المزيد من العواطف والتي تضاعف الثقة بين الأطراف، وبإمكانك ايضا سحبها مما يقلل من تلك الثقة، وفي النهاية فإن كشف الحساب العاطفي يبين كم تملك من القدرة على التواصل وحل المشكلات مع الغير، والتعامل بلطف ولباقة مع الآخرين، ما هو الا أحد ابداعاتنا في رصيدنا العاطفي).
فالأخلاق الحسنة ومعاملة الغير باللين واللطف والرفق والرحمة من ابجديات ديننا الحنيف، وقد أرسى هذه القاعدة الصلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف …).
فإن كنت منتقدا أحدا، فكن لبقا رفيقا في انتقادك، واستمع لقوله تعالى: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى).
وتذكر إن كان في أخيك عيب، فإنك مليء بالعيوب، ومثلما أنك لا تسمح ولا بأي حال من الأحوال أن يجرحك أو يحرجك أحد أو يشهر بعيوبك أو ينقص من قدرك، فلا تكن سببا في جرح كرامة الآخرين. وتذكر أن النفوس جبلت على حب من يحسن إليها، وبغض من يؤذيها ويؤلمها، فاستول على هذه النفوس بالإحسان والحب والرفق ولا تبخل عليها بالنقد البناء والنصيحة (فالدين النصيحة)، واستمع الى الامام الشافعي رضي الله عنه يقول:
تعمدني بنصحك في انفراد
وجنبني النصيحة في جماعة
فإن النصح بين الناس نوع
من التقريع لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي
فلا تجزع إذا لم تعط طاعة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى