أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

قائمة البكائيات

د. أنس سليمان أحمد
ذات يوم كانت قضية الأرض حية فينا، وكانت في حسابتنا وإهتماماتنا ومن قضايانا المصيرية كمجتمع، تعني لنا أن نكون أو لا نكون، فقدّم مجتمعنا لنصرتها الشهداء والجرحى والأسرى السياسيين، وعاش معها مجتمعنا في كل يوم من أيام حياته، وعاشت معنا في نبضات قلوبنا، وفي قصائد شعرائنا، ومقطوعات أدبائنا ومقالات إعلاميينا ومواقف سياسيينا وحماسة شبابنا وزغاريد نسائنا وحكايات أطفالنا، وكي لا ننساها خوفاَ ولا عقوقاً ولا فتوراً، فقد خلّد مجتمعنا لها يوماً أسماه ” يوم الأرض”، وأقام لها مجتمعنا لجنة سماها : ” لجنة الدفاع عن الأراضي” وهكذا بقينا على العهد معها عقوداً من الزمان، ثمّ ولّى لها مجتمعنا لها أدباره اليوم، وما عادت تعني له شيئاً، وما عادت تُذكر على ألسنتنا إلا من باب الذكريات الباردة التي لا توقظ نائماً، ولا تنبّه غافلاً ولا تحرّك مشاعر، وفجأة وأدنا ” لجنة الدفاع عن الأراضي” بأيدي مجتمعنا، ووأدنا ” يوم الأرض” بأيدينا كمجتمع، وتحوّل إلى ذكرى أطلق عليها ” ذكرى يوم الأرض” وبتنا نتذكر فيها كل شيء إلا الأرض، ثم وضعنا قضية الأرض في ” قائمة البكائيات” واكتفينا بمواصلة البكاء عليها من باب الضريبة الكلامية، حتى يُقال لا زلنا نناضل من أجل أرضنا، ولو كان فينا ” عرق حياء” لدفنّا رؤوسنا في التراب خجلاً من أنفسنا!! وذات يوم كانت بيوتنا تعني وجودنا، وكان بقاء بيوتنا يعني بقاء وجودنا، وكان هدم أي بيت منها يعني هدم وجودنا، ولذلك مرّت علينا كمجتمع مرحلة من الزمان كنّا نتعامل مع قضية أي بيت مهدد بالهدم على إعتبار أنها قضيتنا جميعاً وقضية بيتنا جميعاً وأن نصرة تلك القضية والدفاع عن ذاك البيت، هي نصرة لقضية كل منا ودفاع عن كل بيت منا، سواء كان ذاك البيت المهدد بالهدم في النقب أو في الساحل أو في المثلث أو في الجليل، وذات يوم وبغية تعميق اللحمة المصيرية بيننا وبين بيوتنا أعلن مجتمعنا عن يوم سمّاه ” يوم المسكن”، وكان الجميع يحزن حزناً شديداً إذا ما هدمت المؤسسة الإسرائيلية أي بيت من بيوتنا، وكنّا نحزن كأن الواحد منا فقدَ أباه أو أمه أو ابنه أو زوجهُ، وكانت قياداتنا تضرب إذا طولبوا بالإضراب، وكان مجتمعنا يحتشد بعشرات الآلاف إذا دُعي إلى مظاهرة، وكنا نجمع الأموال بغية إعادة بناء البيت المهدوم، ثم فُتحت علينا دنيا القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ، ودنيا نحت الشعارات وتنميق الجمل الرنّانه والهتافات الطنّانة وزخرف القول وغرور المنصب وفتنة الكنيست، فباتت بيوتنا تهدم بالعشرات كل عام، ولكن واحسرتاه على رد فعلنا المعيب، إذ بتنا نلتقط صوراً لذواتنا على أنقاض بيوتنا المهدومة ونشجب ونستنكر ونبرع بحركات أيدينا وهزّ رؤوسنا ولقلقة ألسنتنا في مشهد كل إستنكار أمام عدسات الكاميرات، وبلا تردد وأدنا قضية بيوتنا، ثم وأدنا ” يوم المسكن” وشطبناه من ذاكرتنا، وما عدنا نتذكره ولو مرة واحدة في كل عام كما نتذكر يوم الأرض، ولعلّ أجيالنا الفتية الشابة لا تعلم أنه كان في سلة نضال مجتمعنا ذات يوم ما كان يسمى ” يوم المسكن”، وكما ضحينا بقضية الأرض ويوم الأرض ووضعنا الأرض في ” قائمة البكائيات” وواصلنا البكاء المستأجر عليها، ها نحن قد ضحينا بقضية بيوتنا، ” ويوم المسكن” ووضعناها في ” قائمة البكائيات” وها نحن لا زلنا نواصل البكاء المفتعل عليها، وهو الهوان الذي طاب لنا أن نغرق فيه، وتغرق فيه قضية الأرض وقضية البيوت!! وعلى أثر هذا الثلم الأعوج سرنا، ولأنه ثلم أعوج، فقد بات سيرنا أعرج، وباتت علاقتنا عرجاء مع كل قضايانا المصيرية، ويرحم الله تلك الأيام التي كان فيها مجتمعنا على إستعداد صادق أن يدافع عن قرية العراقيب بأجساده، ثم خارت قواه، وبات مجتمعنا يكتفي بعدّ المرات التي قامت بها جرافات المؤسسة الإسرائيلية بهدم بعد هدم بعد هدم لقرية العراقيب، وهل وصل عدد مرات الهدم إلى مائة أو إلى مائتين أو إلى أكثر من ذلك أو دون ذلك، ثم دون وخزة ضمير وضعنا قرية العراقيب في ” قائمة البكائيات”، وبتنا بين الحين والآخر ننوح عليها نواح المستأجرة لا نواح الثاكل، وكأن العراقيب وقانون كامينتس وللأسف قضية العنف اليوم باتت بقرة حلوب نطمع أن نجمع من ورائها زعيقاً إعلامياً ونعيقاً سياسياً وأصواتا بالآلاف في لعبة الكنيست!!
وذات يوم كنا نحفظ عن ظهر قلب جدول ثوابتنا الوطنية والسياسية كما نحفظ “جدول الضرب” وكنّا نفتتح ذكرها بذكر “حق العودة” وكنا نرى في “حق العودة” ثابتاً لا يرفضه إلا عدو ولا يتنازل عنه إلا عاق، ولا يسخر منه إلا رخيص، ثم فجأة بات البعض منا يستسلم لمحاولة البعض الآخر منا شطب “حق العودة” بل بات هؤلاء البعض يخترعون الأعذار الوهمية المبرر لشطب “حق العودة” وفي أحسن الأحوال وضعنا “حق العودة” في “قائمة البكائيات”، ورحنا نبكي عليه بكاء الواقف على الأطلال، وهكذا طالت ” قائمة البكائيات” فينا، وباتت تشمل قضايا الأرض والبيوت والعراقيب وحق العودة، والشهداء والأسرى والجرحى وقضايا التعليم الفاشل والهوية المشوهة والأنتماء المشلول وحق المهجرين ومأساة النقب وغربة الساحل، وبتنا نستمطر دموع المجاملة أو دموع التماسيح على قضايانا الكثيرة في ” قائمة البكائيات” ثم إني ما أخاف منه اليوم أن نضم إلى لائحة ” قائمة البكائيات” قضية العنف، وأن نقف من هذه القضية المصيرية الموجعة المقلقة فقط موقف الوعظ والإحتجاج ودرأ ما نستطيع من آثار العنف، وأن نسمح لآفة العنف أن تستفحل فينا ، وأن يزداد عدد ضحاياها من أبنائنا يوما بعد يوم، فهل نستيقظ قبل أن تقع الكارثة؟! وهل نخجل على أنفسنا ونرفض إلحاق قضية العنف بقائمة البكائيات؟! وهل نتنازل عن أنانيتنا ونبادر فوراً إلى إنتخاب لجنة المتابعة – رئاسة وعضوية- من جماهيرنا الكادحة؟! عسى أن نصنع لأنفسنا ” سيادة اعتبارية” نواجه بها غول العنف الدامي فينا؟! ونجدد العهد كما يجب مع سائر قضايانا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى