في ذكرى المولد: أزهار من بستان الحبيب
الشيخ كمال خطيب
اليوم الجمعة 12/ربيع الأول ذكرى مولد سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنها باقة من بستان ربيع المولد الشريف نقطفها ونقدمها هدية لكل من يحب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
لا تفضح أباك يا ولدي
يروي فيلسوف الإسلام الكبير محمد إقبال، قصة جميلة عن والده تكشف عمق إيمان والده وشدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول :جاء سائل يطلب صدقة، فطرق باب بيتنا بعنف، فخرجت أنا لأرى من الطارق وكنت صبيا، فضربته بعصا على رأسه. ليس فقط أن السائل قد تألم، لكن والدي قد تألم أكثر وقال لي والدموع تسيل غزيرة من عينيه: يا بني، غدا تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها، غدا يحشر أهل الملة الإسلامية، الحكماء والشهداء، والعلماء والعصاة ويأتي هذا السائل المسكين شاكيا، فماذا سأقول إذا قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أعطاك وأودعك شابا مسلما فلم لم تؤدبه بأدبي، بل لماذا لم تجعله إنسانا؟! فانظر يا ولدي عتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأبيك وانظر إلى مقامي وموقفي في خجلي بين الخوف والرجاء، أتفضح أباك أمام مولاه يا ولدي؟. يا بني كن برعما في غصن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خُلُقه الطيب بنصيب.
نعم إن أجمل هديه نهديها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده ليس أن نسمي ابننا إذا ولد باسم محمد، ولكن أن نُخَلّقه بخلق محمد وأن ننشئه على هدي محمد وعلى نهج محمد، وإلا فإنها الفضيحة يوم القيامة بين يدي الله وبين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، يوم ينادي على بعض من تسموا باسم محمد إلى النار، فينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رب أمتي يا رب أمتي، فيقال له: يا محمد إنك لا تدري ماذا فعلوا بعدك!!!.
فلا تفضحوا آبائكم أيها الأبناء يوم يقفون عند مولاهم وعند سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم خالفتم نهجه وجافيتم طريقه، بل سيروا على نهجه وأنتم ترددون رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن دستورا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
وقولوا كما قال شاعر العرب أحمد شوقي يخاطب رسول الله وهو الذي تسمى باسمه أحمد:
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
إن جلّ ذنبي عن الغفران لي أمل في الله يجعلني في خير معتصم
وقولوا كما قال شاعر الترك نجيب فاضل:
“يا مبشري، يا منجي ، يا سيدي، يا نبيي، أي قسطاس” ميزان” لا يلائمك ولو كانت هي الدنيا أرفضها وأتركها”.
فيا ولدي ويا كل الأولاد، يا بني ويا كل الأبناء لا تفضح أباك أمام مولاه.
وكيف أفضحك يا والدي؟
لقد كان محمد إقبال ذاك الغصن من تلك الشجرة، شجرة الإيمان والتقوى والورع، لقد كان مثلما أراد له والده وغصنا وبرعما من روضة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يأتي يوم القيامة فيفضح أباه بأن يكون على نهج غير نهج وخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد كان محمد إقبال ثمرة طيبة لتلك التربية الإيمانية الصادقة { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } آية 58 سورة الأعراف، فكان شديد الحب عظيم الشوق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن العلاّمة الفاضل الشيخ أبو الحسن الندوي الهندي يقول عنه في كتابه الرائع ” روائع إقبال ” ص 41 : ( ولم يزل حب النبي صلى الله عليه وسلم يزيد ويقوى مع الأيام، حتى كان في آخر عمره إذا جرى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه أو ذكرت المدينة على منورها ألف سلام فاضت عيناه، ولم يملك دمعه، وقد ألهمه هذا الحب العميق معاني شعرية عجيبة منها قوله وهو يخاطب الله سبحانه وتعالى: “أنت غني عن العالمين وأنا عبدك الفقير فاقبل معذرتي يوم الحشر، وإن كان لا بد من حسابي فأرجوك يا رب أن تحاسبني بنجوة خفية من المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإني استحي أن أنتسب إليه وأكون من أمته وأقترف هذه الذنوب والمعاصي).
ولقد قال محمد إقبال في موقع آخر كلاما رائعا في بيان حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن المسلمين من الحجاز والصين وإيران وأقطار مختلفة، نحن غيض من فيض واحد. نحن أزهار كثيرة العدد، واحدة الطيب والرائحة. لماذا لا أحبه ولا أحنّ إليه وأنا إنسان، وقد بكى لفراقه الجذع وحنت إليه سارية المسجد. إن تربة المدينة أحب إليّ من العالم كله، أنعم بمدينة فيها الحبيب).
وفي قصيدة له بعنوان “هدية إلى الرسول” فيها بيّن محمد إقبال تلك الثمرة من ثمار والده الذي كان يعشق ويجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت المناسبة قريبة من ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنه حضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا حملت إلينا من هدية؟ فاعتذر الشاعر عن هدايا الدنيا وقال: إنها لا تليق بمقامكم الكريم، ولكنني جئت بهدية وهي زجاجة يتجلى فيها شرف أمتك وهو دم شهداء طرابلس) كان ذلك بعد الاحتلال الطلياني لمدينة طرابلس في ليبيا وارتكاب مجزرة فيها.
وها نحن في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقدم حكام السعودية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده أن يسمحوا لخسيس وزنديق، وثمرة حاقده من ثمار المشروع الصهيوني أن يتسلل قريبا من قبره صلى الله عليه وسلم. وشتان شتان بين جلوس محمد إقبال الهندي المسلم يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين جلوس بن تسيون الإسرائيلي يشمت ويهزأ عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم
يقول المرحوم الشيخ محمد الغزالي في بيان معاني ودلالات الحب الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبها تختلف عن أدعياء الحب والتظاهر به بينما الحقيقة غير ذلك، فيقول رحمه الله: ( حب غايته صلوات تفلت من الشفتين مصحوبة بعواطف حارة أو باردة وقلّما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير، والترجمة عن هذا الحب بهذا الأسلوب في وقت ينهب فيه تراثه، أمر مرفوض إن لم يكن ضربا من النفاق).
إن حب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ليس كلمات جافة تلهج بها الألسن، ولاهي شعارات براقة نرفعها أو نرددها، وإنما الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الاقتداء والتأسي والسير على المنهج { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} آية 21 سورة الأحزاب . إن الحب الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتعارض مع رؤية الإنسان المسلم لدين محمد صلى الله عليه وسلم وسنته ولأمته والأعداء ينهشونها من كل جانب، بينما من يدعي الحب يعيش لا مبالاة بل عدم اكتراث، إنما هو الدليل على أن الحب هو حب مزعوم وغير صادق وإلا فإن الغيرة والحرقة هي ردة الفعل الطبيعية للمحب الحقيقي حينما يرى ويسمع من يتطاول على دين محمد صلى الله عليه وسلم.
تعصي الرسول وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب يطيع
إن حب الشفتين المزعوم تفضحه الجوارح حين تمارس سلوكا يتعارض مع أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الحب الصادق هو الذي تصدقه العينان كما في حالة محمد إقبال التي ذكرناها سابقا، حيث أنه ما كان يذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا وعيناه تذرفان الدموع حبا وشوقا للحبيب صلى الله عليه وسلم.
صاحب المقام المحمود
يقول الأستاذ وأديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي في كتابه “وحي القلم” : إن التجاء الخلق جميعا من أهل القارات ومن دبّ عليها إلى محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة يسألونه الشفاعة والوساطة، هذا يعني أن محمدا صلى الله عليه وسلم في عالم الحقائق شمس وضّاحة ولكن العميان كثير، وأن الشمس في رابعة النهار لا تعتبر غائبة عن بصير، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم شمس لا ينكر لها بريق لكن المهم أن يكون لك فؤاد مصقول يستطيع استقبال هذا النور. لقد جاء آدم عليه السلام ليعطي الدنيا ناسا من صلبه، وجاء محمد ليعطيها أخلاقا من فضائله {وإنك لعلى خلق عظيم} آية 4 سورة القلم.
من أراد أن ينال شفاعة الشفيع، ومن أراد أن يحظى بصحبة الحبيب فما عليه إلا أن يزيل الغشاوة عن عينيه لأن العميان لن يروا شمس محمد، وألا أن يفتح قلبه ليتلقى لأنه لن يستقبل نور محمد صاحب القلب الأغلف، ولن يحظى بصحبة صاحب المقام المحمود ولن ينال شفاعته من لم يتخلق بأخلاقه.
مقارنة
قال موسى عليه السلام { رب أرني أنظر إليك قال لن تراني.. } آية 143 سورة الأعراف، ولكنه سبحانه أرسل إلى محمد أن يأتيه به دون أن يسأله، وكان ذلك ليلة الإسراء والمعراج.
لقد احتاج موسى للقاء ربه فترة إعداد استمرت أربعين يوما { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} آية 142 سورة الأعراف، ولكن محمد صلى الله عليه وسلم ذهب للقاء ربه دون إعداد وبلا مقدمات { ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } آية 8-9 سورة النجم.
لقد قال موسى عليه السلام { رب اشرح لي صدري }، بينما قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم { ألم نشرح لك صدرك } آية 1 سورة الشرح.
لقد قال شعيب { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} آية 89 سورة الأعراف. وقال إبراهيم { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } آية 41 سورة إبراهيم، بينما جمع الله الفتح والمغفرة لمحمد صلى الله عليه وسلم دون أن يسأل ربه ذلك { إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} آيه 1-2 سورة الفتح.
ولقد دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وذريته من بعده عبادة الأصنام{واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} آية 35 سورة إبراهيم. بينما قال الله تعالى وأعطى محمدا صلى الله عليه وسلم ذلك من غير مسألة {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} آية 33 سورة الأحزاب، وليس بعد هذا تشريف ولا تكريم…
فاللهم صلّ على محمد قدر حبك فيه، اللهم بجاه محمد عندك أن تفرج عنا ما نحن فيه، وأن تشفع فينا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن ترزقنا صحبته على الحوض يا رب العالمين.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون