والله غالب على أمره
الشيخ كمال الخطيب
لسنين طوال ومن يوم أن أكرمني ربي سبحانه بشرف الدعوة إليه وإلى دينه ودعوته والاعتزاز بالإسلام والهتاف باسم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد وهبني سبحانه لسانًا وقلمًا فسخّرت لساني في كل منابر الخير والدعوة إلى الله تعالى، فأنا على ذلك أربعين سنة والحمد لله 1980-2020 وأسأله جلّ جلاله أن يختم لي بالخير، وأن يتوفاني وأنا على عهد الدعوة إليه سبحانه. وأما قلمي فإنه منذ العام 1985 من يوم أن أصدرنا في الحركة الإسلامية أول مجلة شهرية هي مجلة “الصراط”، فقد بدأت من يومها بالكتابة وإن كانت متقطعة حتى كانت سنة 1989 يوم أصدرنا صحيفة “صوت الحق والحرية”، فكان مشوار الكتابة فيها وفي غيرها من الصحف المحلية، شعاري ومثالي في ذلك قول فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وقد قال للعلمانيين وأدعياء القومية وكتّاب البلاط “ستظلّ أقلامنا التي شبّت على الحق تقارع أقلامكم التي شابت على الباطل”.
أقول أنه وطوال 35 سنة من تسخير قلمي في الدعوة الى الله ونصرة للإسلام، فقد اعتدت أن أختم كل مقالة أكتبها بقول الله تعالى {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 21 سورة يوسف، ثقة ويقينًا بالله تعالى ونصره وتحقيق وعده بانتصار الإسلام.
لكنني اخترت في هذه المقالة أن تكون هي العنوان وهي البداية والنهاية ثقة أكثر ويقينًا أعظم بالله تعالى وإتمام نوره وتحقيق وعده وقرب فرجه وبانتصار الإسلام بإذنه سبحانه.
إنه لا أصعب من أن تكون متفائلًا في زمن اليأس، واثقًا في زمن التشكيك والبلبلة، قويًا في زمن الضعف، ولكن بلسان حال كثيرين من المسلمين ممن يبكيهم الحال ويحزنهم الظرف الذي تمر به الأمة في مشارق الارض ومغاربها.
فإذا كان حزنك وبكاؤك على الدين والحرب السافرة عليه والسهام المصوبة إليه من الأعداء ومن بني الجلدة، فإنني أقول لك لا تحزن ولا تخف على الدين لأن الله ناصره ومؤيده، ألم تسمع قول الله تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} آية 21 سورة المجادلة.
وإذا كان حزنك وبكاؤك على المقتولين والمغدورين من المسلمين في فلسطين ومصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن وكشمير وميانمار وأفريقيا الوسطى وفي كل أرض، فإنني أقول لك لا تحزن لأن هؤلاء شهداء عند ربهم يرزقون {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} آية 169 سورة آل عمران.
وإذا كنت باكيًا حزينًا على الجرحى والمكلومين والمسجونين ظلمًا وعدوانًا من المسلمين، فتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها خطاياه”.
وإذا كنت تحزن وتبكي على حال الأرامل والأيتام من المسلمين والمسلمات، وما أكثرهم وقد فقدوا المعيل والحاني فإن الله يتولّاهم، فتذكر قول الله تعالى {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} آية 196 سورة الأعراف.
وإذا كنت حزينًا باكيًا على حال المشرّدين واللاجئين والمطاردين وقد تركوا بيوتهم وأوطانهم خوفًا من البطش والقتل، فاطمئن أنهم يومًا سيرجعون ويعودون، وتذكر قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} آية 85 سورة القصص.
وإذا كنت حزينًا باكيًا على فقد البنين والأحباب وتفرّق الشمل، فاسمع وتذكر قول الله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} آية 10 سورة الزمر.
وإذا كان يبكيك ويبكيني ويبكينا جميعًا تمكّن أهل الباطل وصولتهم وبطشهم بأهل الحق وبالمسلمين، فاسمع قول رب العالمين {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} آية 196-197 سورة آل عمران.
وكيف لك أن تظلّ حزينًا باكيًا مهمومًا أيها المسلم وقد قيل عن الصبر. قال يا رب: خلقت من كل شيء زوجين اثنين وخلقتني وحيدًا، فقال له الله تعالى وكيف تكون وحيدًا وأنا معك {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} آية 46 سورة الأنفال.
فامسح دموعك وابتسم، ولا تحزن، وابق على ثقة ويقين وأمل بوعد الله سبحانه، وتذكر قوله {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 21 سورة يوسف.
أيها المظلوم تقدم، أيها الظالم لا تتكلم
في ظلّ استفحال الظلم وتسلّط الظالمين واستكبارهم في ظلّ الحرب السافرة التي يعلنها ويشنّها أعداء الإسلام وعملائهم وعكاكيزهم من الحكام والخونة والعملاء المارقين، ومن أدعياء الدين الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أحذية في أرجل الظلمة وأدعياء القومية والوطنية الذين أعمتهم الحزبية الضيقة من أن ينتصروا للحق، فآثروا أن يكونوا سوطًا في يد الظلمة والقتلة وسهامًا صدئة توجه إلى صدور حملة المشروع الإسلامي. في ظل هذا فإننا نسمع من يتساءل من وطأة الظلم، هل هذه هي حقيقة الحياة فعلًا، وهل هذا هو ناموسها ونظامها أن يموت المظلوم مظلومًا، ويرحل من هذه الدنيا ويبقى الظالم الذي لوّثت يده بآلاف البشر قتلًا وظلمًا وقهرًا وسجنًا دون عقاب؟
هل هكذا تكون نهاية المشهد أن يختار أهل مصر محمد مرسي في انتخابات حرة ويصبح رئيسًا تعقد عليه الأمال، ثم يأتي السيسي وينقلب عليه ويسجنه ويقهره ويذلّه ثم يموت مرسي في السجن ثم يدفن في جنازة ليلية لا يشيّعه فيها إلا زوجته وأبناؤه، ويبقى السيسي رئيسًا وزعيمًا يصول ويجول؟
وهل هكذا تكون نهاية المشهد أن يتم استدراج جمال خاشقجي إلى سفارة بلاده، وهناك يحقن بالمواد السامة ثم يموت ويقطع جسده ويذاب بالمواد الكيماوية وتخفى جثته ويطوى ذكره، بينما يبقى محمد بن سلمان ومخابراته وعصاباته ومستشاريه بلا حساب ولا عقاب؟
وهل هكذا تكون نهاية المشهد أن يطالب أهل سوريا بالحرية والكرامة والعيش الكريم، فيقف في مواجهتهم بشار ويقتل منهم قريبًا من مليون ويشرّد نصف الشعب السوري، ويدمر المدن والقرى، ويعتقل عشرات الآلاف ويخنق بالكيماوي الآلاف، ويقتل في السجون آلافًا أخرى، ويعيش أهل سوريا في الخيام فقراء لاجئين مشرّدين، بينما بشار وعصابته وطائفته وأقاربه ينعمون بخيرات سوريا تحميه روسيا وإيران وعصابات حزب الله، ويطوى الفصل الأخير من سفر سوريا وإلى الأبد دون حساب ولا عقاب؟!!!
وهل هكذا تكون نهاية المشهد أن يشرّد شعب فلسطين، يتآمر عليها الأعداء وأبناء الجلدة ويمكّنوا فيه للغرباء المغتصبين الذين اجتمعوا من شتات الأرض، يهدمون قراه ومدنه، ويعتدون على حرماته ومقدساته، ويريدون هدم المسجد الأقصى ليبنوا هيكلهم المزعوم. فهل يصدق عاقل أن العدل الإلهي يمكن أن يقبل بهذا الظلم دون أن يقتص للمظلوم من الظالم، ودون أن يعيد الأمور إلى نصابها ويمكّن لأهل الحق، ويعيد المهجّرين إلى أوطانهم؟
لا وألف لا، بل ومليون لا، فليس هذا هو قانون الله وناموسه وإنما هي حكمته في أشياء يريدها سبحانه ويظنها الناس أنها البداية والنهاية. إنه الله سبحانه الذي يقول {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} آية 36 سورة القيامة. يقول الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: “يظن ابن آدم أن يترك سدى، أي أن يُخلّى مهملًا فلا يؤمر ولا ينهى”. ويقول ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: “فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم لا يليق بحكمته أن يهملهم فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين”.
معاذ الله أن يكون عدل الله في أن يبطش القوي بالضعيف، وأن يقتل الظالم المظلوم، وأن يستبدل الحاكم بالمحكوم بل إنه الموقف العدل الحق بين يدي الله العادل يوم القيامة، يوم يقال للمظلوم تقدم ويقال للظالم لا تتكلم، لأن ما فعلته يعرفه ويعلمه علّام الغيوب سبحانه، يقول الاستاذ حسان شمسي باشا: “فأبشر أيها المظلوم ستوفى مظلمتك ممن لا يظلم عنده أحد، وأبشر أيها الظالم فالحساب قريب قريب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لو أن أهل السماوات والارض اجتمعوا على قتل مسلم لكبّهم الله جميعًا على وجوههم في النار”.
ولمّا قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أعجب شيء رأيت؟ قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل “سلة من القش” فيها طعام فمرّ فارس يركض فأذراه “أوقعه على الأرض” فجعلت تجمع طعامها وقالت: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا قدّست أمه لا يؤخذ لضعيفها من شديدها وهو غير متعتع”.
من يستطيع؟!!
لقد كانت إرادة الله سبحانه ومشيئته أن يمكّن للمستضعفين في الأرض بوراثتها فمن يستطيع أن يرد مشيئة الله الذي قال {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} آية 5-6 سورة القصص.
لقد أخذ الله على نفسه العهد أن يتم نوره، فمن يستطيع أن يطفئ النور الإلهي الذي هو نور السماوات والأرض، وهو الذي قال {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} آية 8 سورة الصف.
ولقد وعد الله سبحانه الذين آمنوا أن يستخلفهم في الأرض وأن يمكّن لهم فيها، فمن هذا الذي يستطيع أن يكذّب الوعد الإلهي {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} آية 55 سورة النور.
وأنه الله سبحانه مالك هذا الكون هو الذي قرّر سبحانه أن يورث المستضعفين، فمن ذا الذي يستطيع أن ينتزع هذا الإرث الذي أورثه الله لمن شاء من عباده {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا} آية 137 سورة الأعراف.
فأبشروا أيها المستضعفون المظلومون المقهورون فإنه سبحانه غالب على أمره ولو كره الكافرون. وأن الذي وعدكم بأن يمكّن لكم في الأرض وينصركم فإنه لن يخلف الميعاد {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} آية 147 سورة الحج.
واطمئنوا، وإياكم واليأس أو الريبة في نصر الله وفرجه مهما علا صوت الباطل وكثر زبده {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} آية 171-172 سورة الصافات.
قال رجل لأحد العلماء الحكماء: إن لي أعداء. فقال له: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه” آية 3 سوره الطلاق. قال الرجل: ولكنهم يكيدون لي يا شيخ؟ فقال: “ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله” آية 43 سورة فاطر. قال الرجل للشيخ: ولكنهم كثيرون؟ فقال: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله” 249 سورة البقرة.
فثقوا بالله وأحسنوا التوكل عليه، ولا تخافوا مكر الأعداء مهما كانت كثرتهم وقوتهم، وأيقنوا بالفرج والنصر والتمكين والفتح المبين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون