أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الــوعي شرط التحرر (1/4)

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي

رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يعلن في كل شاردة وواردة أنه أمام لحظات تاريخية يجب أن لا تُفَوَّتْ تتعلق بفرض السيادة على أجزاء من الضفة الغربية “مناطق ج” وفقا لاتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وضم الأغوار، وتتجلى هذه اللحظة التاريخية بحالة غير مسبوقة من الانبطاح العربي لإسرائيل من محيطه الى خليجه وفي حالة من الدونية غير المسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية، وبسيطرة مطلقة لليمين الديني الجمهوري الصهيوني على مفاصل صنع القرار في الولايات المتحدة الراعي لكل سياسات الضم الاسرائيلية والعامل على بناء الهيكل على أجزاء من المسجد الاقصى المبارك. يرافق ذلك كله انهيار شبه مطلق للمنظومتين الاخلاقية والاجتماعية في البلدان العربية، وتتم عملية الهدم برعاية سلطوية مباشرة من أنظمة الحكم العربية يشرف على هذه العملية جيش من الخبراء من سياسيين وفنانين وممثلين وممثلات، والكثير من الأكاديميين ومن يعتبرون أنفسهم رجال فكر وعدد كبير من الجمعيات والمؤسسات ذات الارتباطات الغربية وفي مقدمتها منظمات نسوية وداعمة للمثلية الجنسية، وقد تورط في عمليات التعرية هذه عدد كبير من علماء الدين المنسوبين للمدرستين السلفية والصوفية. ومع ازدياد معدلات الفقر والفاقة والتشرد واللجوء وانتشار البطالة والجريمة على اختلاف انواعها في عالمنا العربي ومنه حاضرنا الفلسطيني، تتعزز طروحات نتنياهو في مسألتي اللحظة التاريخية وعدم تفويت فرصتها والتغلغل في عالمنا العربي والإسلامي، خاصة تلكم الدول التي وضعت كل بيضها في سلة واشنطن.

داخلنا الفلسطيني ومشروطية الوعي

ثمة مقولة تنتشر بين عديد رجالات الفكر والسياسة والنظر أنّ للداخل الفلسطيني خصوصية يجب مراعاتها في جدل العلاقة القائم مع المؤسسة الإسرائيلية، باعتبارها جسم إحلالي، ودولة تتعزز قوتها باستمرار، وتملك من أدوات السيطرة المباشرة على الفلسطينيين في الداخل ما يجعلهم يجترحون ويبدعون في صيرورات وجودهم وتثبيته أمام هذه الآلة التي لمَّا يقف أحد من عرب ما بعد انهيار الدولة العثمانية وظهور القومية العربية فريق.
قد تكون هذه المقولات صحيحة في ظروف زمانية “معينة ” وإن لم تخضع للبحث والتمحيص الدقيقين، ولكن ننطلق من التسليم بهذه النظرية ونتساءل بناء عليها: هل بسبب هذه الخصوصية نطأطئ الرأس إزاء ما يحدث في داخلنا الفلسطيني من جرائم شبه يومية ترتكبها هذه الدولة “الآلة” بحقنا على كل المستويات وفي مقدمتها مسألتي الوجود والكرامة.
هدمت إسرائيل خلال أقل من عشرة أعوام مئات البيوت وآخرها أربعة بيوت في الطيرة وإخطار عائلة عبد الغني في ام الفحم بهدم بيوتها في غضون شهر وإلا قامت السلطات بذلك، وإخطار عائلة في الفريديس بهدم بيتها، وفي حديث مع أطراف سياسية مسؤولة في الداخل الفلسطيني تحدثت أنّ هدم هذه البيوت مخالف لجوهر الاتفاقيات المبرمة مع السلطات المسؤولة عن البناء والهدم من جهة ومع الجهات الوزارية ذات الصلة، وهو ما دفع بعضهم للتصريح أنّ من يقف وراء هذه الجرائم أي جرائم الهدم، هي المؤسسة الأمنية بذراعها المخابراتية والشرطية، مما يدفع الى سؤال ليس هذا مكان الإجابة عليه: ما الذي تريده هذه الأجسام من وراء هذه السياسات؟
ثمة حاجة لفهم ووعي هذه اللحظة التي نعيش خاصة في ظل التذمرات التي تتبدى من خلال صفحات التواصل الاجتماعي من اطراف شبابية تصب جامّ غضبها على أطراف سياسية تراها المسؤول الاول عمّا آلت إليه الأوضاع، من تغول وفاشية السلطات الإسرائيلية، وهو موضوع لا بدَّ من بحثه بتجرد ومصداقية حتى لا تضيع الاجيال الناشئة في مهاترات لا قيمة لها، ونحن في لحظات تاريخية فارقة تحتاج الى تعزيز قيم الثبات وتحقيق شروطه الموضوعية والتاريخية المؤسسة للتحرير، إذ لا يمكن الخلاص من ربقة الاستعمار في ظل التعاطي معه والركون إليه والنظر الى القتل والهدم الممارس يوميا تقريبا بحق السكنة في هذه البلاد وكأنه شيء طبيعي يتعاضد مع ضروريات البقاء “المتوهم” الفاقد لمعاني الكبرياء والكرامة والعيش الكريم.
لا شكَّ أنَّ الظرف السياسي في البلاد خاصة ما تعلق في سياسة بعض الأحزاب ينذر بخطر شديد على حاضر ومستقبل الداخل الفلسطيني، خاصة أنَّ هذه الأحزاب قياسا الى تاريخها القريب من حيث مستوى سقف نضالها هبط بشكل كبير، ولعل مقارنة بين سياسة ومواقف هذه الاحزاب على مدار عقدين من الزمن وخاصة قبيل عام 2000 واثناء هبة القدس والاقصى وبعدها بقليل والعشرية الاخيرة التي نعيش، تكشف صدقية ما أزعمه بشأن هذه الأحزاب التي تحولت مؤخرا الى وسيط بين السلطات المحلية والسلطة المركزية، في تجل فاضح لأعتى معاني الأسرلة ليتنازل السياسي عن دوره الاساس في عمليتي الهدم والبناء التي هي جوهر التثقيف والثقافة السياسية والالتزام السياسي.
نحتاج في الداخل الفلسطيني الى وعي متجدد اتجاه الحالة التي نعيش والى كي للوعي الراهن الذي تلبَّس الاجيال الناشئة في ظل الرغد الزائف الذي يعيشه البعض وانهيار منظومات القيم وتبدلها كما أشرت سابقا، وفي ظل سياسات الأسرلة التي يتعاطاها معظم الطيف السياسي في الداخل الفلسطيني، تتعاظم الحاجة الى كي الوعي السياسي والثقافي لدى الاجيال الناشئة التي على عاتقها تُقام مهمة استمرار الثبات على هذه الارض في ظل دولة تتغول كونها معطى استعماري حداثي اورو-امريكي محمي من اطراف عربية متواطئة وفلسطينية عميلة ومسيحيانية عالمية بروتستانتية تؤمن بالوعد الإلهي “الكاذب” في عودة المسيح وبناء دولة المسيح القادمة في القدس وفلسطين، وفي ظن المؤسسة الاسرائيلية الراهنة انهم امام فرصة تاريخية لبسط سيطرتهم المطلقة وتحقيق أبدية الوجود في الوعي الفلسطيني الشعبي بعدئذ نفذ الى عديد النخب العربية والفلسطينية.

لا شيء يدوم
في كتابه الفذ “الحداثة والهولوكوست” يتحدث الفيلسوف اليهودي البولندي المنشأ زيجمونت باومان، عن العلاقة القائمة بين الاخلاق والسوسيولوجيا (علم دراسة المجتمعات ) في سياق ارتكاب القتل وعمليات الإبادة، ويعزوها الى تجرد فاعليها من كل قيمة أخلاقية وتحويل القتل الى حالة اخلاقية كمعطى من معطيات الحداثة الاوروبية بل وكمركب من مركباتها، فقد أضافت هذه الحداثة شرعية على التجرد من الإنسانية، ويقدم في كتابه لائحة اتهام خطيرة وصعبة جدا على الحداثة الاوروبية التي من مخرجاتها إسرائيل، وفي معنى هذا الأمر يكتب: “. .. كنت أعيش في اسرائيل عام 1971 بعدما طُردتُ من بولندا إذ أعربتُ عن مخاوفي من السمات القمعية السامة للاحتلال الإسرائيلي وما تحدثه من تفسخ لأخلاقيات المحتلين وتعفن لوازعهم الأخلاقي “… وإذا كانت هذه الكلمات قد كتبت عام 1971 فماذا كان يمكن أن يكتب هذا الفيلسوف الفذ لو عاش إلى هذه الأيام.
المسافة بين الفاشية السلطوية التي تشرف عليها السلطة وتوجهها وتحميها وبين تجريد من ينفذون فاشيتها من كل قيمة انسانية واخلاقية، صفرية، فالسلطة والمنفذ (سواء كان حارس تموله شركة خاصة أو شرطي أو جندي أو جندي حرس حدود أو مجرد مواطن يحمل سلاح أو مخبر..)، وجهان لعملة واحدة وتتجلى هذه المأزومية بالقتل بدم بارد لأبنائنا وبهدم البيوت، ولذلك فالأصل عندنا توجيه الانتقاد والتهم مباشرة للسلطة والعمل على تثوير الواقع المترهل عبر ترسانة أخلاقية لمواجهة هذه الفاشية.
وفي هذا السياق واجبنا أن نتزود بمنظومة ثوابت تتعلق بجدل الصراع القائم مع الاحتلال الإسرائيلي، ولا يتم ذلك إلا من خلال العودة الى الجذور: الارض، القرى المهجرة، التكايا والزوايا والمساجد والكنائس والأوقاف..، فعلى هذه الأرض مرَّ جمع من الطغاة، ولعل ما عبّر عنه الجد الذي عاش في ولاية بيروت العثمانية التي امتدت من اللاذقية حتى حدود القدس، وتحرك فيها بُحريّة، في الفيلم الوثائقي “طريق سيدي” للمخرج الفلسطيني نزار حسن عن حقيقة إسرائيل، تعبير أمثل عن تجربة حياة. يقول الجد: “إركب الحمار وهو سيأخذك إلى بيروت ويعيدك إلى فلسطين” وعندما سأله الابن الذي ولد في عهد الانتداب البريطاني عن إسرائيل، أجاب غير مكترثٍ “لا شيء يدوم”… هذا هو الكود (الرمز الذي تعرف به الأشياء)، الذي يجب أن يشكل الشيفرة للشباب الفلسطيني عموما ولأبناء الداخل تحديدا، وهو ما سيترتب عليه بناء منظومة ثقافية-تربوية تعزز هذه الشيفرة، ففي الوقت الذي أضحت شيفرة المجتمع الاسرائيلي منوطة بمثلث الدين، الدولة والوطن ورمزه أبدية الدولة وفقا لما يتطلب قانون القومية ومئات القوانين ذات الصلة التي تعتمد سياسة الهدم كشرط وجود ابدي لها يتطلب تجنيد منظومات مختلفة دولية ومنطقية: هدم الانسان والبيت والحضارة وهو ما تفعله هذه السلطة منذ عام 1948 دون توقف. وهو ما يتطلب إيجاد شرط مقابل نسميه شرط الوعي والبقاء من خلال الكود والشيفرة.

عن أي شيفرة نتحدث
الاستعمار دائما وأبدا حدث متوحش وقاسي وفيه من العنف والفاشية ما لا يمكن وصفه، وهذا الاستعمار لن يتردد في إحداث المذابح والقتل باسم الحداثة وباسم السلطة والنظام، وتحويل الشعوب المحتلة الى أدوات استعمارية، هذا على سبيل المثال لا الحصر ما فعلته النازية مع الاقليات غير الجرمانية (اليهود، المسلمين، الكالو، الكاربات ،الدُّمَر ،الروما- كلها قبائل تنسب لشعب الغجر- ) في ألمانيا وكل الدول التي احتلتها، والاستعمار مهما تم مكيجته يبقى فاقدا للأخلاق ومتسما بالوحشية والظلم، ولذلك لا يمكن مواجهته بأدوات ناعمة فقط، فمحو الاستعمار كما يقول الفيلسوف والطبيب النفسي فرانز فانون: “.. سواء قلنا تحريرا وطنيا، أم نهضة قومية، أم انبعاثا شعبيا ام اتحادا بين الشعوب، وكيف كانت العناوين المستعملة والمصطلحات الجديدة فإنَّ محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما”، أن العلاقات بين المُستَعمِر والمستَعمَرْ هي علاقات جماعة بجماعة… والمستعمِر يقاوم كثرة العدد بكثرة القوة. إنَّ المستعمِر أنسان مصاب بداء الميل الى العرض واهتمامه بسلامته يحمله على أن يُذكر المُستَعمَرْ جهارا بانه السيد: “أنا هنا السيد” فيثير في المستَعمَرْ غضبا يكبحه هذا حين يهمُّ أن يخرج..”. إنه الغضب والموقف الجماعي الذي تتخذه الشعوب/الاقليات المستعمَرة حين تصطدم قوة المستعمِر بالمستعمَر وهو صدام حتمي وشرط أساس من شروط التحرر.
تلكم هي بعض معالم شيفرة الاستعمار التي كشف النقاب عنها فانون في “معذبو الأرض” والتي تواجه بشيفرة الغضب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى