أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

قواعـــد الـــميـــثاق (7).. الاصلاح مقاربات

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
تبيان..
العنف يقابله السلم والسلام، والفساد والافساد يقابله الصلح والإصلاح، وفي المقابلة المشتقة من علم البلاغة تهدف المقابلة اللغوية لتبيان المعنى وتحقيقه وتوضيحه عقلا وفكرا، ومثال ذلك قول الله تعالى (فلا صدّق ولا صلى ولكن كذّب وتولى) او كقوله تعالى (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسّره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسّره للعسرى)، وتبيان المعنى وتحقيقه عقلا لا يأتي من باب المتعة الذهنية بل من باب تحفيز العقل للتفكير والاستنباط، ومن ثم للعمل.
ولتحقيق التبيان مما ذكرت، انتقل بالقارئ الكريم والقارئة الكريمة من انوار القرآن الى عنت الحياة، فحين يقابل السلم العنف بناء على الرؤية القرآنية للمقابلة، فإنَّ العنف يكون سلبيا في مجتمع يرنو السلام والوئام والحياة الطبيعية، في حين يكون السلم أساسا لتنمية والرقي المجتمعي لذلك فمن الطبيعي أن تحدث مدافعة حين يتسلل العنف الى مجتمع آمن سليم ومعافى ويواجه هذا المجتمع العنف بأدواته ليقطع دابره او/ و ليدفع به الى الزاوية، بينما حينما يضرب مجتمع تراجعت أخلاقياته وقيمه وسلوكياته فإن ضرباته تكون متسارعة ومؤثرة وموجعة، فعلى قدر انحسار تلكم المجتمعات عن فعل الخير والسلم والسلام على قدر آثار العنف الموجعة فيه، ولذلك فمن الناحية العملية يلغي العنف معاني السلم والسلام تماما، كما ينفي معاني الصلح والاصلاح. تتعاظم الحاجة لتدارك الأمر لمعالجة العنف حين يصل الى مستويات تضحي المجتمعات رهينة لها بغض النظر عن أنواع العنف الضاربة في تلكم المجتمعات.
لقد حدثنا القرآن الكريم عن أشد انواع العنف حين يتم سلب حياة انسان “ما” وتعتبر قصة هابيل وقابيل مثالا عينيا وحيا ودرسا لمَا نتعلم منه بعد وإن كان الحسد عنوانا بارزا بيد أنَّ وراء الحسد تكمن نفس خربة وهوى مسيطر، ومن ثم تكون الحاجة الماسة لدراسة تعرجات النفس البشرية من منظور قرآني، ومن الضرورة الاشارة الى أنَّ الجهل والكِبرُ والحسد والبغضاء وحب الشهوات كلها من أنواع الهوى.
الإصلاح رؤية قرآنية…
لا أدَّعي في هذه المقالة كشف النقاب عن رؤية قرآنيه متكاملة للإصلاح، مفهوما وممارسة وفكرا ودفعا حضاريا وعمرانيا، بيدَ أنها إشارات يحتملها المقال ثم نترك الامر لهمام يعالج الموضوع برؤية قرآنية جامعة، فقد غاب عن المسلمين اليوم تفعيل القرآن وتنزيله واقعا مُعاشا، ذلكم أنه العهد الإلهي الاخير للبشرية بعد إذ استوى عودها العقلي والادراكي والنفسي، وانتهى بذلك عهد المعجزات والخوارق، فالعقل هو صاحب الخوارق والمعجزات في عصر ما بعد موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام. الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم، ما عاد له دور وأثر في حياتنا ولا يخفى على القراء الكرام الملايين من حفظة كتاب الله لكننا لا نكاد نجد قرآنيا يدبُّ على الارض. والأصل أن يحكم القرآن ويوجهنا في حيواتنا اليومية وفي آماد اعمارنا ولا يحدث ذلك بسب غياب العقل الاسلامي برمته عن حيواتنا، اللهم إلا قليل، فما أنزِلّ القرآن الا ليحكم.
تناول القرآن موضوع الاصلاح ومحايثاته في العلاقة مع الله والفرد والاسرة والزوجين والعلاقة مع الأبناء، والعلاقة مع المجتمع الواحد والمجتمع المتعدد العرقيات والديانات، والعلاقة ما بين المسلمين وغير المسلمين والعلاقة مع السلطة والسلطان وأرباب الولايات والامور المتعلقة بإصلاح ذات البين والدماء والاعراض والاموال ومختلف الحقوق، والعلاقات وقت الحرب ووقت السلم وعند وقوع الفتن، بل القرآن كله ما بين دفتيه ما جاء الا لتحقيق الإصلاح، ولذلك تتعاظم الحاجة في ظرفنا الراهن لفهم دقيق وعميق لمعاني الاصلاح والصلاح في السياق القرآني والنبوي وتنزيلهما على أرض الواقع لما لهما من ثقل ووزن في حيوات الناس، وهو ما يحتاج الى قوة علمية ومادية ومعنوية تُعِينُ على تحقيق هذا المطلب.
ثمة علاقة سببية بين الصلاح الفردي والاصلاح المجتمعي وهذه المسألة وما فيها من اتصال وانفصال تناولها القرآن وتناولتها أحاديث رسولنا الاكرم صلى الله عليه وسلم، فالصلاح غاية مطلوبة شرعا وعقلا وواقعا، إذ بضده يحدث الفساد فصلاح الفرد يعود أثره المباشر على نفسه دنيا ودين وآخرة، ويعود على مجتمعه دنيا إن في حركة الحياة وما فيها من علاقات بين الخلق على المستويات المحلية والجهوية والقطرية والعالمية او على مستوى المخلوقات على مختلف انواعها فصلاح الانسان كإنسان بات اليوم مطلبا كونيا للتخلص من نفايات الفكر الغربي وانحرافاته وما اوقعته مدارسه الإيديولوجية من ظلم شديد على البشرية وعلى الكرة الارضية بجغرافيتها وما يدبُّ عليها من حياة، ولا يتصدى لهذه المهمة الا اهل الاصلاح فإذا كان الصالح صالح مع نفسه ومكتفيا بنفسه عن الخلق فأنَّ المصلح قد حمل همومهم وعمل على اصلاحها ومما قاله الائمة أنْ كان الصلاح يستجلب الخير والبركة والنماء، فإنَّ الاصلاح يدفع الله به الشرَّ والهلاك ولذلك كان الاصلاح سنة جامعة تصبُّ في حوزته سنن مختلفة مثل سنن التغيير والتبديل ومن جميل صنع الله في الخلق أنه لا يهلكهم وفيهم المصلحون، وليس الصالحون، يقول الله تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) هود..117. يقول الامام القرطبي في معرض التفسير لهذه الآية الكريمة: “وقوله تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى أي أهل القرى، ” بظلم” أي بشرك وكفر . وأهلها مصلحون أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق; أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان وقوم لوط باللواط ودل هذا على أن المعاصي أقرب الى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده. وقد تقدم، وقيل: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مسلمون، فإنه يكون ذلك ظلما لهم ونقصا من حقهم، أي ما أهلك قوما إلا بعد إعذار وإنذار. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ما كان ربك ليهلك أحدا وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح; لأنه تصرف في ملكه; دليله قوله: إن الله لا يظلم الناس شيئا. وقيل: المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون; أي مخلصون في الإيمان. فالظلم المعاصي على هذا) … وفي معرض تفسير الآية السابقة وما قبلها من سورة هود يقول صاحب الظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله (وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، فأما الأمم التي يَظلِم فيها الظالمون ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تَحقُّ عليها إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال والاختلال. فأصحاب الدعوة الى ربوبية الله وحدَه وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحدَه، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره؛ إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع). وبذلك يتضح أن الفساد مرده وخيم ليس على من يمارسونه بل على كل المجتمع الساكت الصامت الذي يؤمن بسياسة الحياد والتي تطرقت الى مضارها في مقالات سابقة. ولذلك كان للإصلاح سنن لها قوانينها وقواعدها وأدواتها.
الإصلاح سنة لها قوانينها وقواعدها…
السنَّة كما عرفها صاحب الظلال هي: “قانون الله العادل في الخلق المؤثر في حياة الناس، لا يحابي أحد”. وهذه السنة الجامعة لها قواعدها التي كشف عن بعضها القرآن الكريم والهدي النبوي، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر التوبة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والشورى والتشاور والتعاون على البر والمراقبة والسلطة والسلطان والقوة، وهذه القواعد التي هي غيض من فيض حين النظر اليها وسبرها، سنجدها قواعد تأسيسية لا ندَّ لها ومدماكا أساس من مداميك بناء الإصلاح في المجتمعات، إذ بهذه القواعد ونظائرها يُفرض الإصلاح على المجتمعات فيكون لهذا العمل فضلين فضل ستر المجتمعات وفضل عدم نزول سنة الهلاك عليها. ويتحقق الاصلاح بمجموعة من السنن الماضية في الحياة كسنن سنن النشوء والبناء، سنن الابتلاء والامتحان، وسنن التدافع الحضاري، وسنن التغيير والتحويل والتحصين.
إن المنهج الصحيح لإزالة الانحرافات التي باتت تراكم في مجتمعاتنا العربية عموما ومنها في الداخل الفلسطيني، لن يتم عبر استيراد أفكار ومنظومات وإن كنا جزءا لا يتجزأ من شعوب الارض ومن حركة الحياة العالمية نتأثر بها كثيرا برسم تخلفنا الحضاري والثقافي وردتنا التي نعيش، والمخرج الوحيد من هذه الردة وهذه النكبة تحقيق الاصلاح المجتمعي والسياسي، ولا يتمان الا عبر عمل دؤوب على جيل لمَّا يتأثر من أدران الانحرافات السلوكية والاخلاقية والمجتمعية التي حطت رحالها في مجتمعاتنا ونجم عنها تبدل في القيم والاخلاقيات، ولأننا نعلم أن العقليات لا تتغير فجأة بل تتم عبر مراكمات وهي قابلة للتبدل والتغير والنمو فمهمتنا اليوم العمل على ضمان أن تتم عمليات النمو وما يرافقها من متغيرات ضمن الفضاء الاسلامي الرحب والعام بقيمه الخاصة والمشتركة مع البعدين العربي والانساني المؤسس على منظومة عقدية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير. ولأننا نحتاج الى اتخاذ الخطوة الاولى للشروع بمسيرة الالف ميل فنحن بحاجة الى من مصارحة مع الذات والاخر تبدأ من الاسرة إذ كلما تعاظمت مساحات الصراحة داخل الاسرة كحالة تربوية كلما تعاظمت استقلالية الشخصية الساعين لبنائها على قواعد ابراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو ما ستكون آثاره القريبة ظهور جيل من المنضبطين المدركين الواعين يملكون رؤية واضحة في مختلف القضايا.
نريد رجل المستقبل..
من طبيعة هذا الدين حين يربي الانسان على عقيدة التوحيد والغيب أنَّ يخلق فيه رؤية نحو المستقبل فالإيمان باليوم الآخر مثلا ليس ضربا من الخيال العلمي بل هو تربية وتهيئة للمستقبل القادم، ومن ثم فالإنسان المسلم في الاصل هو إنسان المستقبل على المستوى الدنيوي وعلى المستوى الأخروي، ففي حين تخلق هذه التربية في النفسية المسلمة نوعا من التواضع والتجرد والاخلاص يستفيد منها على مستوياته الشخصية المباشرة كسبا وعلوا فإن مثل هذه القيم تؤسس لإنسان المستقبل، ومن ثم لجيل قادم يمكن أن يقود هذا المستقبل على هدى وبصيرة ورشاد.
وللخروج من فك العنف لا بد لنا أن نرسم للمستقبل وأن نبث الامل في عقول ونفوس الناشئة والشباب، فهم جيل المستقبل وقادته والخير مكنوز فيهم، ولا يملك التفكير في المستقبل من لا يعيش هموم حاضره، وقد أدرك تاريخه القريب والبعيد، استوعب الدروس واستفاد منها، فحاضرنا اليوم هو امتداد لماض ومستقبلنا هو نتيجة من نتائج حرثنا في هذا الواقع، وبين الواقع والمستقبل جدل قائم حاضنه الزمان ومحركه الفعل والعقل والوجدان وعقل المستقبل، كما أنه يرفض الانقطاع والانفصال عن الماضي، فهو كذلك الجسر الوصل إلى ذاك القادم “المستقبل” بعقل مفتوح، وهذا يتطلب في مجتمعاتنا إثارة وإشاعة ثقافة المستقبل تلكم التي تتحدث عن التطورات القادمة وكيف ستكون الحياة وما هي التوقعات والتحديات، وقد كانت انتكاستنا الفكرية يوم نظرنا الى اليوم الآخر برسم أنه غيب محض سرمدي فيه أبديتنا ولم ننظر إليه كمحفز لنا في الطريق للقبض على ناصية الزمان نقوده حضارة ونحن أمة أقرأ وأمة الخير وأمة الوسط.
ولذلك هناك حاجة لثلاث خطوات، خطوة المعرفة الدقيقة لتاريخنا وواقعنا، وخطوة تحقيق منجز راهن، وخطوة مخططات المستقبل، وهذا كله يحتاج إلى مراكمة العمل مهما كان ضئيلا، والتخلي كلية عن العفوية، والدفع نحو تثوير الإيجابيات في مجتمعنا، ومجتمعاتنا فيها خير وافر وكثير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى